اعتاد كثير من الكتاب في عهد مضى، ولازال بعضهم، أن يبدأوا تعليقاتهم بداية كل عام جديد أو عيد سعيد، بقول الشاعر (عيد بأي عيد جئت يا عيد). ثم يكملون حفل اللطم والردح، اليأس والعجز والكسل؛ وكأنما هو قدر على أمتنا أن لا تفوق من غيبوبتها، ولا تعود من غيبتها.
كنت واحدًا من هؤلاء يومًا، ثم استيقظت إلى أن الأقدار يعلم الله وحده سرها، وما تصنعه أو لا تصنعه يصبح قدر منك لا قدر عليك، ومنذ تلك الصحوة تعلمت أن الماضي قيد لمن يعيشه، وموجَه لمن يتعلَّم منه، ودافع لمن ينطلق من مصنته إلى حاضره ومستقبله.
انكسار وازدهار
واليوم، عندما نستعرض حال العرب منذ “الأندلس” نرى كثير من الخيبات والانكسارات، ولكننا أيضًا نرى ما يقابلها من الانتصارات والإنجازات، الفردية والجمعية، وعندما نراجع ما جرى منذ “الربيع العربي” من تحارب وتدافع وفشل، يصيبنا الحزن والألم، ولما نرى ما حققته الدول الشعوب التي أريد لها أن تتقسم وتنهار من يقظة ونهوض وانطلاق، نتذكر أننا “خير أمة أخرجت للناس”.
وفي العام الماضي شهدنا الحالين معًا، الانكسار والازدهار. فشعوب ثارت على هيمنة الغريب وتسلط القريب، وأخرى استسلمت لها، وبلدان واجهت التحديات والأوبئة فنجت، وأخرى فشلت، والعبرة هنا أن لا حال يدوم. فمن خسر الجولة اليوم، يمكنه بالتحضير والاستعداد أن يكسبها غدا، ومن سلم هذا الصباح، يستطيع أن يتمرد على استسلامه في المساء، ومن رسب في امتحان “السيادة” و”الكرامة” بالأمس يمكنه التعلم من تجارب الناجحين في الامتحان القادم.
القادمون والمغادرون
التاريخ جولات وحالات، دول وتداول. تستطيع أن تلحق بقطاره فتسابق الأمم، أو أن تختار البقاء في المحطة مترددًا ماذا تفعل، هل تبقى مع من اختار البقاء، حتى لا تفقدهم، أو تعود إلى من اختار التطبيل لأمجاد الماضي والتطبير على نكساته؟ هل تواصل الجدل فيمن أصاب ومن خاب، من انتصر ومن خسر، من ظلم ومن ظُلم، أم تخطط لمستقبل أنت فيه من يصنع التاريخ ويحقق الانتصار؟ هل تعيش على نبض الآباء والأجداد، أم على رتم الأبناء والأحفاد؟
العرب اليوم على بوابتين، بوابة القدوم وبوابة المغادرة. فنصفنا اختار العودة إلى نفس المحطة التي تجاوز عمرها 1400عام، والآخر قرر مغادرتها إلى أقصى الزمن، أقصى الأرض، أقصى الفضاء. بعض المغادرين حمل معه بعض ماضيه حتى لا ينسى من أين جاء. والبعض مزَّق ما أسماه “اوراقه الصفراء”. منهم من قرر أن يكمل من حيث انتهى، ومنهم من قرر أن يبدأ من جديد.
خرائط الطريق
عام مضى بكل دموعه وابتساماته، عسره ويسره، وعام أطل بأوراقه البيضاء لنكتب عليها ما نريد، وبأوراقه الخفية لنستعد لها بما يليق وما يفيد. المتحول فيه نصنعه أو يصنعنا، والثابت فيه “مكتوب” علينا وبنا ومنا. فما نحن فاعلون؟
الأمم العظيمة استعدت برسم استراتجيات خمسية وعشرية وخمسينية. بعضها يتعلق بنا، ينسج شباكه حولنا، ويرسم مستقبلنا، مستغل غفلتنا وضعفنا وتفرقنا، ونحن، كأمة، على ماذا اتفقنا؟ وماذا خططنا؟ وأين وجهتنا؟ ربما لم نتفق كمجموعة عربية كلية، ولكننا توافقنا كمجاميع إقليمية. بعضنا لا يملك قراره أصلًا، بعد أن اختطفه العجم، فلا غرابة أن يغيب، وبعض دمرته الحروب الأهلية والنزاعات الدولية، وبقي، لحسن الحظ، بعض آخر تكاتف وتحالف. رسم لبلاده خريطة طريق لمستقبل أفضل، وقدم لشعبه خطة عمل تنقله إلى محطات أكثر استقلالية وقوة، نماء ورخاء، وتعاهد مع حلفائه على مواجهة مشاريع الأعاجم واقتلاعهم من بلاد العرب.
ماذا نريد؟
إذن هناك أمل، وهناك قدوة، وهناك منارة في بحر الحيرة والتيه. هناك راية يرفعها عرب لعرب، ودعوة مفتوحة للتمرد على العجم، وقطار يعلن انطلاقته نحو عالم بلا لطميات قهرية، وجدليات تاريخية، وأحزان ماضوية. بلا انقسامات مذهبية وطائفية وعنصرية. بلا انتماءات خارجية، وتحزبات داخلية. هناك عالم جديد، شرق أوسط جديد، ورؤى وطنية وقومية عربية جديدة.
يبقى السؤال لكل عربي، ونحن نودع عامًا مضى، ونضع أقدامنا على اعتاب العام الجديد، ماذا نريد؟ الخيارات مفتوحة، وعديدة. ورغم القيود، لازال بيدنا أن نختار. أمامنا دائما خيارات. خيرة عند صندوق الاقتراع، وخيرة عند عضوية الأحزاب، وخيرة بين الاستسلام والثورة. نختار من يمثلنا، ونختار منصتنا، ونختار محطتنا. نعبر بلا خوف، ونصوت بلا حزبية، ونكسر قيد العبودية. قرر ماذا تريد، وافعل ما تريد، وسيحقق لك القدر كل أو بعض ما تريد، ولكن لا تسلم لمن يريد، وتمضي كما يريد.
كل عام وأنتم بخير.