علاقة الطائف بالإبداع الأدبي والفني قديمة جدًا، ولن أذكركم بسوق عكاظ، ولا بشعراء الطائف على مر العصور، أما الموسيقى؛ فقد حضرت الطائف ثاني مدن الجزيرة العربية في قول ابن عبد ربه: “أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا، وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة”، أما في العصر الحديث فهي موئل عدد كبير من الموسيقيين السعوديين الكبار.
الطائف كذلك أول مدينة سعودية احتضنت مدرسة الموسيقى منذ العام 1952م، وكذلك أقام النادي الأدبي عددًا من الأمسيات التي تزاوج بين الشعر والموسيقى، وكانت جامعة الطائف أول جامعة سعودية تُنشئ ناديًا للموسيقى، تدرب طلابه في قاعة النادي الأدبي أيضًا، كما تبنت أكاديمية الشعر العربي بها فرعًا (للقصيدة المغناة) من فروع جائزة الأمير عبدالله الفيصل للشعر العربي، وللموسيقى لجنة خاصة في جمعية الثقافة والفنون بقيادة الفنان سعد العاطف.
والمميز أن تشهد الطائف هذه الأيام تدشين (صوت نهاوند) أول أكاديمية خاصة لتعليم الموسيقى بجميع أنواعها، افتتحها الشاب المبدع أنس اللهبي صاحب برنامج البودكاست الشهير (ساندويش ورقي)، وقد كان لي شرف زيارة الأكاديمية برفقة رئيس أدبي الطائف، وعدد من المثقفين، فوجدنا العمل المؤسسي الحقيقي المبشر.
تتكون الأكاديمية من عدد من الصفوف الخاصة لتعليم آلات موسيقية مختلفة، واستقطبت كفاءات موسيقية خبيرة، ولا تكتفي بالتعليم المباشر للهواة، بل تعمد إلى تأصيل الموسيقى علمًا نظريًا في أذهانهم من خلال تعليمهم المقامات والنوتات الموسيقية المختلفة، وتنفتح على الموسيقى بأنواعها الشرقية والغربية، وتوفر للدارسين الالتقاء ببعضهم في قاعة مفتوحة خارج النمط الأكاديمي، من خلال (النادي الاجتماعي) الذي يتبادلون فيه الخبرات، ويقيمون الحفلات الموسيقية المصغرة أسبوعيًا، كما ألحقوا بها استوديو للتسجيل الصوتي.
لفتني في الأكاديمية تصميمها المُشع بالجمال، فقد تعمد مؤسسوها أن يخالفوا السائد في معاهد التدريب، وجعلوا كل واجهاتها الداخلية والخارجية من الزجاج الشفاف، فالموسيقى كائن جميل لا تليق به الجدران المعتمة، في لمحة تترجم التوجه المشرق لرؤية 2030 الرامي إلى إشاعة الفنون التي تنمي فينا الحس والذوق، وتنشر البهجة والسلام داخل الوطن وخارجه.
قرأت الحماسة في حديث الأستاذ أنس وزملائه، وكانت وجوههم مشرقة بالبهجة، وهم يخططون أن تكون أكاديميتهم بارزة في خدمة المشهد الموسيقي السعودي، ويواصلون السعي إلى تصميم البرامج والمبادرات الوطنية والشراكات خدمة للطائف والوطن، ما زاد إيماني بهم وبمشروعهم النوعي الجميل، وأتاح لخيالي السباحة في أجواز الطائف، فرأيت في أركانها ومعالمها ومؤسساتها شبابًا ينشرون البهجة والحب والجمال بمعزوفاتهم وفنونهم الراقية، وسمعت الطائف تقول: “ازددت جمالًا بكم” والوطن يرد: هنيئًا لنا!