كنتُ أستعد لبداية العام الدراسي الجديد بجامعة الملك عبدالعزيز، عام 1981، وقد قدمت للتو استقالتي لرئيس تحرير صحيفة عكاظ الجديد، هاشم عبده هاشم، بعد أن قدمتها قبل ذلك لرئيس تحرير صحيفة الرياض المكلف، كمسئول تحرير بالمنطقة الغربية.
ذلفت بلا موعد إلى مكتب رئيس تحرير مجلة اقرأ، الدكتور عبدالله مناع، في مقر صحيفة البلاد التي عملت بها في بداية مشواري الصحفي مع رئيس تحريرها عبدالمجيد شبكشي، رحمه الله، ونائبه هاشم عبده هاشم، بعمارة باخشب. وبعد السلام والتحية، وبلا مقدمات أعلنت: لقد قررت أن أنضم إلى جهاز تحرير المجلة، بمقابل أو بدون. وأنا جاهز الآن فمتى أبدأ؟ ضحك أبو سجى وقال: فورًا .. وبمقابل! وهكذا كان.
لم أكن أعرفه شخصيًا. وإن كنت أقرأ له، أسمع عنه وأسمع له. وكانت المرة الأولى الذي استمعت واستمتعت بحديثه في جلسة بفندق المريديان بشارع المطار القديم، عام 1980، على طاولة طعام يتصدرها وزير الإعلام وقتها، الدكتور محمد عبده يماني، غفر الله له، مع عدد من الإعلاميين. كان المناع يتحدث عن الفارق بين الإبداع والجنون، ويتحدث عن ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما، بأسلوب راقني وفلسفة أشغلتني، حتى تاريخه!
كتبت في مقدمة كتابي الأول،”العام 24″، إهداء لذلك الرجل “الطوال” عبدالله مناع، وكنا على خلاف. فبعد ثلاث سنوات في مجلة اقرأ، التي عرفت ب “مدرسة المشاغبين”، مع ثلة اللاجئين من مقص الرقيب، قررت أن الوقت قد حان للمرحلة التالية. فبعد تخرجي من الجامعة عام 1983 عينت سكرتيرًا لتحرير المجلة لعام تزاحمت فيه مع من حسدني على قربي من عقل المناع وقلبه. ولما وجدت أنني أغامر بخسارة أستاذ تعلمت منه أبجديات الصحافة “الحرة” والكلمة المحلقة والنظرة الفلسفية للناس والأحداث والأشياء، وأنني بحاجة إلى الانتقال إلى فضاء أوسع، رحلت عام 2004 إلى الصحافة الدولية، مسئولًا عن تحرير مجلة المجلة في السعودية، والشرق الأوسط بجدة.
استعدت علاقتي بأستاذي الكبير، وتواصلت معه في مناسبات مختلفة، حتى جمعتنا رحلة الذكريات التي سجلتها لها ونشرتها صحيفة المدينة التي انتقلت إليها مديرًا لتحرير عددها الأسبوعي بعد عودتي من دراساتي العليا في الولايات المتحدة، عام 2000. بدأت جلسات التسجيل في مقاهي جدة، خاصة “الرانديفو” بشارع التحلية، و”سواريه” بشارع صاري. وبعد أن انتهت السلسلة التي صدرت كتابا بعد ذلك بعنوان “بعض الأيام بعض الليالي”، تحولت الأمسيات الأسبوعية إلى “سبتية المناع” لتجمع نخبة الكتاب والمثقفين، وبقيت كذلك سنوات عدة.
المناع ليس إعلاميًا فقط، بل مثقفًا بامتياز: يحسن الاطلاع ويجيد التعبير، وتشكل هموم وأحلام وطنه وقومه هاجسًا لا يغفو ولا ينام. رحالة، يهتم بتاريخ وتراث الأمم، ومتذوق للشعر والموسيقى والفنون الجميلة. طبيب أسنان دخل ديوان صاحبة الجلالة من بوابة الأدب والرواية، فجذبت شخصيته وجمعت النخب بصالون عيادته بشارع الملك عبدالعزيز، ثم بمكتبه في المجلة التي أسسها وترأس تحريرها، اقرأ.
وعندما انتقل إلى العمل الإداري، بمؤسسة البلاد ومطابعها، لم يبعد كثيرًا عن عالمه، ولكنه لم يكن في قلب الحدث. كتب أسبوعيًا، وخاصة في الجزيرة، بدعوة من رئيس تحريرها، صديقه الوفي، خالد المالك، وبقي متحدثًا يُستمع إليه على إذاعة جده، وبصدر الداووين الثقافية مثل “أثنينية الخوجة” و”ثلوثية الطيب” و”خميسية العامودي” و”جمعة عبدالرحمن فقيه” إضافة إلى “سبتية المناع”. لكنني كنت أشعر دومًا أنه يحن إلى بيئته، إلى مكتبه، إلى مجلسه … إلى المطبخ الصحفي الذي كان أبرز من أداره، وأشهر من احترقت أصابعه بناره .. ولم يتب.
سر المناع في تاريخه وقناعاته و”غرامياته”، ولو طلب مني تقديمه في جمله، لقلت: “عاشق” جداوي، اتحادي، عروبي، يرى الناس سواسية، والمثقفين درجات؛ يكتب بحبر القلب، وكبرياء الفكر، واستعلاء المفكر، ومنظار الفيلسوف. اختلفنا على الأفكار .. واجتمعنا على حرية التفكير. رحم الله عبدالله مناع .. مر عام على فراقه .. كم افتقده.
كلام صادق من صديق وفي ،،
كل الاحترام والتقدير د خالد باطرفي .
محمد باطرفي