في الفترة التي كان أجدادنا لا يحملون همّ شيء من حطام الدنيا كما يحملون هم (اللقمة)، اللقمة التي تتشكَّل حولها جل علاقاتهم، في السكنى والمجاورات والروابط والتحالفات والسلّم الاجتماعي، والتعاون والشراكات والرحلات، وحتى الصراعات الخفية أو الدامية، فقد كانت (اللقمة) مدار الحياة، إذ تخلو القرى من ساكنيها إذا أزمن الجدب، يرتحلون إلى القرى الرغيدة، ثم يعودون إليها إذا أحيتها رحمة السماء، ولا يخفى عليكم أن ذاكرة القرى زاخرة بالحكايات من هذا النوع.
لفتتني استعارة بديعة طرقت سمعي أكثر من مرة في أحاديث كبار السن، تؤكد قدر (اللقمة)، إذ كانوا يقولون عن الكريم مجازًا (كان صحنًا من صحون الله)؛ لأنه بسط (اللقمة) للضيف وللعاني وللمسكين وللجار ولعابر السبيل، وهذا ما كان يفعله الشيخ مطير العاصمي المالكي، حتى سمّوه تشريفا (مطير العيش)، لأنه استشعر واجبه، وشكر نعمة الله بالإنفاق والمشاركة، فقد أنعم الله عليه بالحلال (المواشي) والمال والمزارع الخصبة، وقدّر أن يكون سكنه تحت ثلاث عِقاب (جمع عقبة) يصعدها الناس وينزلون منها بين تهامة والسراة في (جرداء بني عاصم).
تزامنت حياة مطير العيش مع بدايات توحيد المملكة العربية السعودية، ولم يكن حال الناس قد اختلف عن الحقب السابقة، فكانت مزارعه تنتج أنواع الحبوب كالذرة والدخن والسمسم، يحصدها خدمة ويودعونها في المستودعات التي جهزها للحَب والسَّبَل، ثم أمام تلك المستودعات التي ما تزال قائمة إلى اليوم تنتشر (المطاحن اليدوية) وأحجار الرحى، بأحجامها المختلفة، يعدون الطعام قبل انبلاج الصباح، ويودعونه في الصحاف (جمع صحفة) ويخلطونه بالحليب والسمن، أو يوزعونه خبزًا، ثم يبسطونه أمام منزله لكل الناس دون استثناء، كما يبسط زوار الحرم الحب للحمام، ولأنه علم أن الحياء يمنع بعض الناس عن مرور منزله، أمر خدمه أن يبسطوا صحونًا على طرقات الناس التي تمر قريبًا من مزارعه، فكان يأكل منها الصاعد إلى السراة والهابط منها، حتى سموه تشريفًا وتقديرًا (مطير العيش)، وظل هذا اللقب وما يزال شاهدًا على كرم هذا الرجل وسخائه.
لم ينقطع ذكر مطير العيش، ولم تخبُ مآثره، فها هو حفيده الشيخ حسين بن جار الله العاصمي المالكي، (حسين العيش) يحمل لقب جده، ولم تلهه حياته في أم المدائن (جدة) عن إحياء مآثر جده وأبيه، فأعاد إعمار تلك القرية الكبيرة، وعمّرها بأفضل عمارة تحافظ على طابعها القديم، وتمنحها اللمسة المعمارية الحديثة، ثم أصلح المزارع وأعادها سيرتها الأولى عامرة بالزروع، وزاد عليها أشجار الفاكهة بأنواعها، وجمع كل موجودات القرية وحفظها في (متحف خاص) زاخر بكل أنواع التراث القديم، فركن أساسي لكل تلك الصحون الخشبية (الصحاف) بأسماء خاصة لكل صحفة، ومعها أواني مطابخ مطير العيش الكثيرة، وركن للأسلحة القديمة النارية والبيضاء مختلفة الأحجام والأنواع، وركن لأدوات الزراعة والحرث والتحميل، وركن للعملات المعدنية والورقية، وركن للملابس والأزياء، وركن للحلي بأنواعها، وركن للمطاحن والمساحق والرحى، وركن لأثاث المنزل بأنواعه، وركن لأدوات العناية بالأطفال، وغيرها الكثير والكثير من الأدوات المصنوعة قديمًا، وأضاف إليها بعض الكتب والوثائق والمتفرقات من الأجهزة القديمة، ستشاهدون جانبًا منها في فيديو خاص صورته، وعلقت عليه في زيارتي للقرية وسراجها حسين.
بصفتي الشخصية، وبصفتي ممثلًا لجمعية سفراء التراث برئاسة الأستاذ طلال الشرهان، تشرفت بزيارة هذا المعلم التاريخي، والأثر الثقافي الناصع، وشاهدت بفخر وإعجاب كل الأعمال الجليلة التي أبدعها حسين العيش وإخوانه بجهد فردي، وقد بثت فيه رؤية 2030 العزم والطموح، فبذل الغالي والنفيس وجمعها كلها تحت مسمى (قرية مطير العيش الأثرية) الواقعة في جرداء بني عاصم بمحافظة الحجرة التابعة لإمارة منطقة الباحة، ومضافتها مفتوحة لكل زائر، سيجد من يستقبله ويقوم بواجبه ويشرح له عنها.
ومن هذا المقام أدعو وزارة السياحة، وهيئة التراث، وإمارة منطقة الباحة، وكلهم قديرون وحريصون، أن يمدوا يد العناية والاهتمام لهذه القرية، فهي جديرة أن تصبح مزارًا سياحيًا تاريخيًا تراثيًا يرتاده السواح والباحثون والمهتمون بالتراث والثقافة والأبناء، وهي من المعالم المهمة، والأيقونات التاريخية المضيئة في منطقة الباحة والوطن، ولحسين العيش كل الشكر على كرمه واهتمامه وعنايته، ولا يستغرب ذلك من الوطنيين أمثال أبي ماجد الكريم.
بيض الله وجهك يادكتور الثقافه والادب وزيارتك لقرية مطير العيش تعتبر اضافه جديد للقريه وكتابتك عنها سوف تكون النور يضي لمستقبل القريه الواعد ان شالله
اخوك صالح العمري ابو مهندض
مقال رائع يا دكتور احمد حفظكم الله.
الاخ الصديق الشيخ حسين جارالله العاصمي ( حسين العيش ) رجل قدم وبذل الكثير لاحياء هذا التراث لجده مطير العيش الله يرحمه ، وفعلا حافظ على تراث الاجداد بكل اقتدار
وما في هذه القرية ومتحفها شاهد على الجهود الجبارة التي بذلها ابو ماجد وهو فعلا يستحق الاطراء والاشادة،
وقرية مطير العيش فعلا تستحق ان تكون ضمن التراث الوطني ومزارًا للسياح فهي تستحق ذلك لما فيها من متحف مميز لم يأتي الا بعد جهود بذلت من الاخ الشيخ حسين.
كل التقدير لك د احمد على المقال وعلى ما نقلته لنا عن قرية مطير العيش،
وكل التقدير والاحترام للاخ الصديق العزيز ابو ماجد على جهوده التي بذلها في هذا المجال .