أعادت رؤية 2030 أنظارنا إلى الداخل (المهمَل)، لا أدري أين كنَّا ننظر سابقًا، فقد كانت أعناقنا إما ملوية إلى الماضي البعيد، أو ممطوطة إلى الخارج، نمسي نحصي هموم أجدادنا الذين ماتوا، ولم يقبروا همومهم معهم، ونصبح نتأوَّه لأحوال كل الشعوب، نهتف لهذا ونتعوَّذ من ذاك، وندعو على أولئك، جيشتنا الصحوة في أرتال تنتظر (الأمس)، ولا تعمل لليوم، فصحونا على واقع بئيس.
أيقظنا العصر السلماني، نفض الخدر عن العقول والأجساد، وأزال العصائب عن الأعين، وعدّلت أفكار الرؤية المباركة أعناقنا فرأينا (الوطن) بكنوزه (المهملة) إنسانًا ومكانًا، فانظروا كيف انطلقنا ننقب، تبهرنا أشياء كانت بين أيدينا، لكن لم تكن تبهرنا آنذاك، كأننا لم نرها حقًا، آثار وطبيعة وبيئات وكوادر بشرية مذهلة، وأفكار مدهشة تتفتق عنها عقول أبناء الوطن.
تشرفت بحضور مهرجان العسل الأوَّل بمحافظة أضم، وأكرموني بالمشاركة في إحدى فعالياته، ويا للدهشة! فقد كان المهرجان (أغنيّة) لم أسمع مثلها من قبل، كل أنغامها من أبناء محافظة أضم، نغمة المسؤولين الحكوميين في المحافظة، ونغمة المشايخ والأعيان، ونغمة رجال الأعمال، ونغمة لجان المهرجان، وأنغام المبدعين والموهوبين، وأنغام الجماهير المتعطشة للإبداع، وإيقاع النحل والنحال والعسل، وأنغام المتطوعين، وأنغام المكان (محافظة أضم ومراكزها) كل هذه النغمات التي كانت (أشتاتًا)، جمعها وألّف بينها ـ برعاية أمير الإبداع خالد الفيصل ـ الموسيقار المبدع الأستاذ عبدالله حسن الفيفي محافظ محافظة أضم، هندس نوتتها بمعية الأفذاذ في لجان المهرجان، وفتح الفضاء لها لتنداح أغنيّة أضمية عسلية عذبة في فضاء الوطن.
كل شيء في ذلك المهرجان كان (عسلًا مصفى)، رسم البهجة على أرواح الناس، وألبسهم ثوب الزهو والبشر بمستقبل أجمل للمحافظة، مستقبل يستنطق كنوزها وموجوداتها (إنسانًا ومكانًا)، فقد أدهش الناس أن كل تلك الكنوز تحويها محافظتهم، وهم لا يعلمون عنها شيئًا، فلم يدر في أذهانهم أن يفيض عدد شعراء المحافظة عن ليالي المهرجان الخمس، واكتشفوا أنهم لا يستطيعون إشراك الجميع في الدورة الأولى، وأدهشهم أن المحافظة زاخرة بعدد كبير من (النحَّالة)، وأن محافظتهم وجهة لكبار مربيي النحل!
كان إشراك 20% من خارج المحافظة رأيًا موفقًا، فاستقطب المهرجان كبار المربين الذين عرضوا تجاربهم لأبناء المحافظة، وبصّروهم بالكنوز النباتية لمحافظتهم، وزادوا على ذلك بعرض الطرائق الحديثة المثلى، وفي هذا غنوة لأبناء المحافظة، وتغذية أفكارهم بما يجوّد صناعة العسل الذي اشتهرت بهم المحافظة منذ القدم.
أطلق المهرجان أيضًا، مبادرة (وجهتكم) الرقمي، وهي مبادرة رعاها مكتب التعليم وأبدعها المميز عيسى صالح المعافي، يعرض أهم المعالم السياحية في المحافظة ومراكزها، ويرشد إلى مواقعها إلكترونيًا، ويقبل الإضافة والمراجعة والتعديل، وكما علمت فهو من ثمرات مبادرة (كيف نكون قدوة في العالم الرقمي؟)
احتضن المهرجان أمسيتين شعريتين، استضاف فيهما شعراء من خارج المحافظة، وحضرها مثقفو المحافظة بتلهفٍ ومحبة، ولسان حالهم يقول: هل من مزيد؟ فالمحافظة زاخرة بالمبدعين في الآداب والفنون والتقنية والتراث والإعلام، يتشوقون إلى مظلات متخصصة تحتوي طاقاتهم المبدعة، وتقدمهم إلى المظلات الوطنية الكبرى كغيرهم من أبناء الوطن.
إنها محافظة العسل، والإبداع، شتاؤها بغية الشاتين، وصيفها وربيعها بهجة النحالين، أما إنسانها فهو ربيع دائم للضيف والعاني والسائح، وأترك الحديث عنهم لمن زارها من خارجها، فشهادتي مجروحة في مراتع طفولتي وصباي، وفي أهلها الأبرار.
أشكر سمو الأمير خالد الفيصل، ومحافظة أضم ومحافظها، والبلدية وعلى رأسها المهندس المبدع عمر الزهراني، ومكتب التعليم بقيادة الهمام نور مسعود الساعدي، ولجنة التنمية الاجتماعية بقيادة الرائع راشد سداح الحساني، والراعي الماسي للمهرجان الشيخ قليل الهلماني، ورجال الصحة بأضم، وفرع وزارة الزراعة، وكل رجال الأعمال والمشايخ والعسّالة والمبدعين (من شعراء وفنانين وتراثيين وفرق شعبية وفرق ترفيهية) والإعلاميين والمتطوعين وأشبال الكشافة والجماهير الغفيرة، وأقول لهم جميعًا: (إعدادات الشوق مضبوطة على مهرجان العسل “الثاني” بمحافظة أضم).
0