ولدت في حي الكندرة بمدينة جدة، وهو أحد الأحياء التي بُنيت خارج السور بعد أن ضاقت المدينة في العهد السعودي بسكانها، وتحسَّنت أحوالهم المعيشية، وشجع الأمن الذي جاء به هذا العهد على السكنى خارج الأسوار، في ارض أكثر اتساعًا، وتقبلًا للنمو والتمدد.
جدة الصغيرة
ثم انتقلت أسرتي إلى حي الصحيفة، أيضًا خارج السور، الذي أزيل عام 1947 ليسمح بتواصل الأحياء السكنية في المنطقة التاريخية والمناطق الجديدة، كالعمارية والسبيل والهنداوية والنزلة اليمانية، ثم الشرفية والرويس، التي كانت قرية يشد لها الرحال، والبغدادية وخزامى ومدائن آل فهد، التي بُنيت فيها القصور الملكية غرب وجنوب المدينة.
كانت أكثر طرق عروس البحر أزقة مصممة للمشاة، فلم يكن أكثر السكان يملكون السيارات، ولا حتى بحاجة لها. وكنت وأخوتي نتجول بين الأحياء للذهاب إلى المدرسة، وزيارة الاقارب، وشراء الاحتياجات اليومية من دكاكين الحارة، والسنوية من سوق قابل، وسوق الندى، وسوق البدو، ومحلات باب مكة. أو للنزهة على بحيرة الأربعين وميدان البيعة ومحيط المطار وحدائق الكندرة.
كنا بخير
لم نشعر حينها بأن بيوتنا صغيرة، وشوارعنا ضيقة، وبرحاتنا التي نلعب فيها كل يوم، ونحتفل بالعيد في مراجيحها الخشبية. أو أن الرحلة اليومية مرهقة للبازان لشراء الماء في جوالين يحملها السقاء أو في حاويات تجرها الحمير، أو الصباحية والمسائية للفوال وفرن التميس، أو العصرية لزيارة الجيران والأقارب في الحارات الأخرى، أو لمستشفى باب شريف للعلاج، أو كل جمعة للدعاء لموتانا في مقبرة أمنا حواء أو مقبرة الأسد. لم يكن في أي من تلك المشاوير ما يستحق استئجار “تاكسي” أو ركوب خط البلده، فضلًا عن اقتناء سيارة.
حياتنا كانت بسيطة، ومتطلباتنا قليلة، ومصاريفنا تُعادل دخلنا … وكنا بخير. لم ننتظر من خدمات عامة أكثر من سلك كهرباء للأنوار، وأتاريك البلدية في طرقاتنا المظلمة بعد المغرب، وطرق مسفلتة خارج الأحياء لتصلنا على ظهور اللواري وأتوبيسات الشركة العربية، بمكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف. ولم نكن نعلم أن متطلبات الحياة الرغدة تتطلب أكثر من بيت يسترنا في غرفة ضيوف، وغرفة نوم لوالدينا، وغرفة معيشة للجميع. ثم سطح أو حوش يجمعنا في العصاري والأمسيات، وننام فيه، خاصة في ليالي الصيف. ولقمة هنية تجمعنا ثلاث مرات في اليوم. ونزهة أسبوعية إلى بحر الأربعين أو “غبة عشرة”.
نعمة الطفرة
كبرنا، وتعلمنا، وسافرنا، وكبرت معارفنا وإمكاناتنا وأحلامنا معنا. وجاءت الطفرة النفطية الأولى في السبعينيات الميلادية فوزعتها الدولة علينا، وبنت لنا الأحياء الجديدة المخططة والمنظمة، ووفرت لها الخدمات الحديثة من كهرباء وماء وهاتف، من طرق وشوارع وحدائق ومدارس وجامعات.
لم تعد تكفينا بيوت صغيرة، ولم نعد ننام على الأسطحة بعد أن توفرت المكيفات، ولا نكتفي بوجبات البيت التقليدية، بعد أن أصبحت المطاعم والمقاهي الحديثة رفاهية لا تقاوم. ولم نعد نمشي بين الأحياء وإلى مدارسنا وأعمالنا بعد أن توفرت السيارات. وهكذا ضاقت علينا الأحياء القديمة، فتركناها، وحملنا معنا منها ذكريات الطفولة والصبا، وانتقلنا إلى المساحات الأرحب، والخدمات الأفضل، والحياة الأكثر تطلبا وسخاء.
انتهاء الصلاحية
اليوم، تهدم الأحياء القديمة، تلك التي بنيت في غفلة عن البلدية، وتنامت في غفلة عن الرقابة، وتحول بعضها، أو بعض من بعضها، الى مناطق سكنية للعمالة الوافدة. وشجع تكدسها وضيقها وطبيعة استخدامها إلى انتشار الظواهر الخطيرة أمنيًا وأخلاقيًا وصحيًا. فمن الأطعمة المنتهية الصلاحية، إلى المخدرات والمسروقات. ومن بيئة لأسوأ الظروف الصحية والسكنية، لحاضنة للجريمة والمخالفات الأخلاقية. ولم تساعد عشوائية بنائها وتخطيطها على وصول الخدمات البلدية والتعليمية والصحية، وتواجد الرقابة الأمنية والتنظيمية والادارية.
وبعد أكثر من سبعين عامًا، جاء اليوم الذي انتهت فيه الصلاحية. ولم يعد تجدي عمليات الإصلاح والتصليح، والمعالجات الجزئية. كان لابد من الإزالة الكاملة والنهائية، وإعادة التخطيط والتصميم والبناء على أسس عصرية ومستدامة، توفر للسكان أعلى معايير جودة الحياة. كان لا بد من الهدم وإعادة البناء. كان لابد التضحية بجزء من تاريخ المدينة والذاكرة المجتمعية، من أجل المصلحة العامة، من أجل أهل تلك المناطق، ومن أجل الأجيال المستقبلية.
عزيمة الرؤية
لم يكن بالإمكان مواصلة الهروب إلى الأمام، وترك قلب المدينة يحتضر، فيما ينتقل أبناؤها إلى أحياء جديدة تمتد عشرات الكيلومترات بمحاذاة البحر، وشرق الخط السريع. كان لابد من العودة يومًا لمواجهة المشكلة التي طال تجاهلها بحلول جذرية. فآخر دراسة لتطوير هذه المناطق، وهي التي نعود إليها اليوم، تمت منذ قرابة العشرين عامًا، وبالتحديد منذ عام 1425 هـ/ 2005 م. وهكذا كان.
الرؤية السعودية 2030 لا تؤمن بالحلول المجزأة والمرحلية. فبدلًا من التدرج تم اعتماد الإزالة كاملة، وخلال عامين فقط. وبدلًا من مراعاة التحديات والانتظار حتى إيجاد حلول لها، تقرر أن يواجه كل تحدٍ في حينه، وأثناء التنفيذ. كما وضع في الاعتبار أن نصف العقارات في ثلثي المدينة الحديثة خالية، ويمكنها استيعاب سكان الثلث المزال. وأن التعويضات التي ستصرف لأصحاب الصكوك والوثائق، وأصحاب المباني بدون صكوك أو وثائق، والتي قدرت قيمتها بأكثر من القيمة السوقية الحالية، ستكفي لتسهيل عملية الانتقال إلى المساكن والمحلات الجديدة، تملكًا أو بناءً أو استئجارًا.
مساعدة المتضررين
تبقى رائحة التاريخ وعبق الذكريات. تبقى معاناة الانتقال السريع. تبقى التكلفة الأعلى للعقارات الجديدة. وعلينا جميعًا أن نتعاطف ونتعاون مع الذين يمرون بهذه الظروف القاسية. بعضهم مستأجرون بإيجارات زهيدة، وسيتحملون الفرق الكبير. وبعضهم ورثة سيقسم بينهم التعويض وقد لايكفي لشراء عقار جديد، أو حتى لاستئجار طويل المدى. وآخرون سيفتقدون بيئة عاشوا فيها عمرًا بين جيران من الأهل والأصدقاء، وأسلوب حياة تعودوا عليه، وينتقلون لحياة متباعدة، مختلفة، مكلفة. وبعضهم لا يملك ما يكفي للشراء أو الاستئجار حتى يصله التعويض الذي لم يحدد له موعدًا بعد.
نتمنى من الأمانة وهيئة العقارات سرعة معالجة الإجراءات، وصرف التعويضات على الفور. ونتوقع منهم سخاء تقديرها مراعاة لظروف الانتقال المكلفة، وغلاء المعيشة. ونامل من الضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية وأهل الخير المسارعة بتوفير المساعدة للمستحقين، ومن البنوك التعجيل بتوفير القروض العقارية للمتقدمين. كما نطالب أصحاب العقارات بعدم استغلال الفرصة لرفع إيجاراتها وقيمتها وشروط التأجير.
التاريخ له عبقه، والذكريات لها عذوبتها، ولكن الحي أولى من الميت، والمستقبل أولى من الماضي، والمصلحة العامة تتقدم على المصلحة الخاصة. تذكرت كل ذلك وأنا أزور بيوتًا عشت فيها طفولتي ولها في قلبي حنين. وسألت نفسي هل أقبل بالعودة إليها؟ هل أرضى لأبنائي أن يسكنوها؟ وكانت الإجابة لا. فقطار التاريخ، كقطار العمر يمضي بنا شئنا أم أبينا. ولحسن حظنا أن محطاته الحالية والقادمة أكبر وأسخى وأجمل، في “بلد ما مثلها بالدنيا بلد” … ولله الحمد.