المقالات

الإعلام .. من علوم الديرة والسيرة ..إلى أحدث أخبار العالم.

الإنسان ابن بيئته، ولأنني ولدت وتربيت في بيئة قروية جنوبية تختزل ذاكرتي تفاصيل الحياة التي عشتها طفلًا، ومن المشاهد الجميلة التي مرت عليَّ كثيرًا في طفولتي (علوم الديرة والسيرة) التي تُشبه نشرة الأخبار المفصلة، يقدمها في المناسبات العامة والخاصة كبير الضيوف أو أفصحهم لسانًا، يستعرض فيها أخبار وأحوال الناس في الجهة التي قدموا منها، وتشمل أخبار الأسواق والأسعار، والمزارع والأمطار والحصاد، وأنواع المحصول الزراعي في الموسم، وما يستجد من أحداث تصل إليهم أخبارها، ثم يتحدث عن الهدف من الزيارة.

بعد ذلك يردّ عليه كبير المضيفين أو صاحب الدار أو صاحب المناسبة أو من يمثله من الفصحاء بنفس الأسلوب، ويتحدث عن كل ما يدور في الجهة التي تخصهم من أخبار وأحداث؛ ليصبح كل طرف على علم بكل أخبار واهتمامات الطرف الآخر، ويختم رده بالتعليق على ما جاء في حديث الضيف عن سبب الزيارة.

كانت هذه الوسيلة؛ إضافة إلى بعض ما يتداوله الناس من قصائد شعراء المنطقة كافية لنقل الأخبار ومستجدات الأحداث وتداولها بين الناس آنذاك، ومع التطور في وسائل الإعلام حمل الأثير للناس في الأرياف والقرى والهجر البعيدة عن المدن عبر المذياع أخبار ما يدور من أحداث في المملكة وفي دول المنطقة والعالم، ثم لحق التلفزيون بالركب؛ لينقل الأخبار بالصوت والصورة؛ إضافة لما تزخر به الصحف من أخبار وموضوعات يومية، وكل ذلك وفق سياسة إعلامية تضبط جودة المحتوى المقدم للمتابع.

وبعد أن تمكنت تقنية الإنترنت من جعل العالم قرية إلكترونية، بدأ التطور التقني في مجال الإعلام يُشكل إعلامًا مختلفًا يصل بسهولة وسرعة فائقة لجمهوره، ويتنافس فيه الهواة الأفراد فيما بينهم ومع المؤسسات المتخصصة وغير المتخصصة ذات الرسائل والتوجهات المختلفة، وتصعب مراقبته والتحكم في جودة محتواه، الأمر الذي زاد من صعوبة مراقبة أولياء الأمور لسلامة وتوجهات المحتوى الذي يطلع عليه أبناؤهم وبناتهم بعد أن أصبحت الأجهزة ملازمة لهم، يتابعون من خلالها المنصات الإخبارية المختلفة، ويطلعون على الأخبار والرسائل التي تبثها إلى مستقبليها من مختلف الأعمار والتوجهات سواء كانت هادفة أو غير هادفة، وأصبح تأثيرها قويًا ومؤثرًا في توجيه الرأي العام.

وقد ظهر هذا التأثير واضحًا وجليًا في حادثة سقوط الطفل المغربي ريان ـ رحمه الله ـ في أحد الآبار المهجورة التي أصبحت قضية رأي عام بعد أن تداولتها المنصات الإخبارية في الفضاء الإليكتروني، وتنافس المغردون في متابعة أحداثها أولاً بأول من خلال أجهزتهم التي أصبحت تُشكل محطات إخبارية متنقلة لمتابعة الحدث كتابة وصوتًا وصورة، بل وصل الأمر بالمحطات التلفزيونية إلى أن تبث مراحل محاولة إنقاذ الطفل على الهواء؛ لتُبقي على حظوظها في استقطاب المشاهدين.

ونتيجة لهذا الضخ الإعلامي الكبير مثَّلت وفاة الطفل ريان ـ رحمه الله ـ فجيعة للمتابعين الذين تبنوها؛ وكأنها قضيتهم وكأن الطفل ابنهم، ونسي الناس ما يحدث للأطفال الآخرين في مناطق الحروب والمخيمات والمجاعات المنتشرة في مناطق متفرقة في العالم؛ نتيجة لقلّة تداول المواقع الإخبارية ووسائل الإعلام المختلفة لأخبارهم وعدم التركيز عليهم، وإن مرت على أخبارهم مرت باستحياء.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button