▪️ يعدُّ يوم 22 فبراير عام 1727م/1139هـ يومًا استثنائيًا بل نقلة نوعية تغير معها مجرى التاريخ؛ لتتحول معه الجزيرة العربية من عصر التصحر والتخلف والتشرذم والصراعات التي تدور رحاها حول تأمين لقمة العيش أو الاستحواذ على مناطق الرعي أو تلك التي تنشأ عن السلطات المتقاسمة لإقطاعيات معينة أو ولاءات ونفوذ خارجي إلى وحدة وطنية ودولة شامخة ومملكة عظمى!!
▪️ في هذا التاريخ قيَّض الله الإمام محمد بن سعود؛ ليضع البذرة الأولى للدولة السعودية بمراحلها الثلاث ليكون بداية عهد لبناء مستدام، لنهضة شامخة، لحضارة راسخة.. تتكسر معها أصنام التخلف والظلامية والشركيات المدوية، لتجتث قوى الجور والظلم، ولتنكشف تلك الغمة عن أمن وارف، ودين رباني خالص، وحكم عادل يُعيد الناس لجادة الصواب؛ شرعًا ومنهجًا قويمًا.
كان من ثمرات ذلك العهد المبارك تحالف الخير والفلاح بين الإمام الحاكم محمد بن سعود والإمام المجدد للدين محمد بن عبدالوهاب الذي بعث كعالم رباني؛ مصداقًا لحديث الرسول ﷺ الذي رواه أبوهريرة:
(إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)
وبما أن ولادة دولة في قلب الجزيرة العربية أدخل الرعب في نفوس الأتراك العثمانيين؛ كونها تُشكل تهديدًا لدولتهم المتهالكة والمحتضرة بفعل التمزق وضياع الهوية الدينية الصحيحة، ولأن عداءهم ينطلق من كونهم يرون في الدولة الفتية التي جعلت من الدين الإسلامي مصدر عزة وتشريع – نفوذًا يهدد وثنياتهم وأضرحتهم ويقوض بِدعهم المنكرة بعد أن استوضح الناس الحق ببصيرة الإيمان ونقاء الإسلام الخالص ليعود بعد ذلك سكان الجزيرة العربية لسالف عهدهم على ملة رسول الهدىﷺ، وهذا ما مهَّد الطريق لضم عدة إمارات وأقاليم تحت لواء الدولة السعودية، ليزداد تبعًا لذلك الأتباع والمؤيدون..الأمر الذي أثار حفيظة العثمانيين الحاقدين، فما كان منهم إلا توجيه الحملات تلو الحملات في محاولة للقضاء على الدولة السعودية؛ ظنًا منهم أنهم قادرون أن يطفئوا نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره بقدرته وقوته!!
وتتوالى الحُقب؛ فما إن سقطت الدولة السعودية الأولى حتى قامت الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله آل سعود ليكمل مسيرة أسلافه وليستعيد مجدًا تليدًا وشرفًا مجيدًا، فجعل من الرياض عاصمةً لدولته؛ فازدهرت الدولة وعم الرخاء واستتب الأمن، إلا أن الصدامات الداخلية التي تناوشت بدأت تنخر جسدها وتنهك قواها وتبدد مكتسباتها.. لكنها لم تكن تثبيطًا بقدر ما كانت تعبئة وشحن قوى لمرحلة جديدة؛ إيذانًا بنهضة ثالثة فارسها الملك الهمام والأسد الضرغام؛ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي جاء ليُعيد تلك الأمجاد ليؤسس كيانًا شاملًا مكتمل الأركان راسخًا كالجبال، فكان البناء على قدر الطموح، إذ تمخض ذلك النضال المستميت والقتال المستفيض عن دولة عصرية عظمى تقوم على نهج قويم من الكتاب والسنة كامتداد لعُمق تاريخي متين؛ لأكثر من ثلاثة قرون وكإحياء لشريعة غراء وكلمة سواء توحدت عليها أرجاء الجزيرة العربية تحت راية خفاقة ترفرف بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ ليتبدل ذلك الظلام الحالك والتخلف المهيب والجهل المتفشي بنـــور الحكمة وهدي النبوة، فكان يوم الأول من برج الميزان لعام 1351هـ هو يوم الوطن الذي يتجدد الاحتفاء بذكراه كيوم مفصلي في التاريخ الحديث؛ لتشكيل دولة تحظى بتقدير عالمي وامتيازات دولية بوأتها مكانة الصدارة كقائدة ورائدة ذات ثقل سياسي واقتصادي بما تتمتع به من موقع جغرافي وامتداد تاريخي، وبما تتبوأه من منزلة رفيعة إذ تضم بين جنباتها أطهر البقاع، تقوم على رعايتها؛ خدمةً للحرمين الشريفين وزوارهما، شعارها (خدمة الحاج والمعتمر شرف لنا) كما تهتم بأمور الإسلام والمسلمين، كدولة راعية للسلام!!
إنه التشريف الإلهي لهذه الدولة؛ لأن تكون مهوى الأفئدة ومقر القداسة ومحور الاهتمام العالمي؛ كـقبلة للمسلمين وذات ثقل في القرار العالمي، كونها مصدر قوة ونفوذ سياسي واقتصادي!!
وبما أن الحديث عن يوم التأسيس هو الحديث عن الملاحم، عن التاريخ، عن المجد والسؤدد، عن دولة السيادة والريادة، عن رجال نذروا أنفسه.. عن بطولات، عن نضال وتضحيات.. عن البدايات لدولتنا العظمى، عن أساس نشأة المملكة العربية السعودية، عن النهضة والحضارة، عن القوة والمكانة.. لذا سنورد قطفًا من تلك الأهمية التي جعلت القيادة تحيي ذكراها لتكون مصدر إلهام للأجيال انطلاقًا من القيمة الدينية والتاريخية التي نشأت مع بزوغ شمس الإمام المؤسس محمد بن سعود -طيب الله ثراه- ومن تلك:
– أن التأسيس كان فاتحة خير وبركة للبلاد والعباد إذ استهل ذلك العهد بتحالف ديني سياسي بين شيخين جليلين عظيمين؛ علمًا وفضلًا، هما الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، مما جعل الدولة تأخذ على عاتقها نشر الدين الصحيح والاهتمام بالعلم الشرعي وأهله، كما جعلت منه مصدر اعتزازٍ وفخر ومركز قوة ومكانة.
– إليه يعود الفضل في امتداد ذلك الشرف لدولة آل سعود بمراحلها الثلاث كإرث يستوجب البقاء؛ كقيمة عظيمة ومنزلة كبيرة، ومرجعية باهرة تعتز بها الأجيال لتبقى مصدر قوة وسؤدد تصان وتحفظ كأمانة على مدى الأزمان.
– كان باكورة لتأسيس الدولة السعودية التي ننعم نحن -الآن – بظلها الوارف وقوتها واتساعها ونفوذها وحضارتها العظيمة، فإحياء ذلك اليوم امتنان واعتراف بالفضل وجميل الصنع!
– بداية إصحاح وإفاقة للناس في أن القوى البشرية لا تتوقف عند الحدود المكانية أو الزمانية التي تحجم القدرات أو توقف النمو المعرفي أو المهني عند حد الحاجة الآنية؛ لتتعداها إلى استشراف المستقبل بخيالات علمية لا تعترف بالقوالب الثابتة أو المرئيات المألوفة، ذلك ما جعل أبناء الصحراء يسابقون الزمن لتسجيل الرقم الأصعب في سجل الاختراعات والمبتكرات العلمية والتقنية كرواد علم ومعرفة في شتى الفنون والمجالات!
– كان ذلك اليوم بمثابة الضربة القاضية التي قطعت حبال المطامع الشريرة ذات الأهداف التوسعية للأعداء المتربصين، لتأتي كصمام أمان لحفظ الحمى العربي الأصيل من أن تطأه أقدام الغزاة أو أن تعكر صفوه المذاهب الهدامة أو النزعات الملوثة بالشركيات، لتتخذ من القرآن الكريم وسنة النبي محمد ﷺ دستورًا ومنهج حياة كما أراده الله لحديث: (إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ)
– أن يوم التأسيس يوم إلهام لانطلاق عاصفة الحزم لتوحيد المملكة العربية السعودية؛ لتكون بهذه الضخامة والقوة المسيطرة النافذة التي وحدّت الشتات ونشرت الأمن والرفاه في أخوّة وألفة كبنيان مرصوص؛ قلبًا وقالبًا تحت راية واحدة شعارها القوة والإيمان.
– وكما أن الاحتفاء بيوم التأسيس جاء ليؤكد العُمق التاريخي للدولة السعودية لأكثر من ثلاثمائة عام إذ لم تكن وليدة أو ربيبة، كما أن حكامنا من صلب قبائل الجزيرة العربية وأعرقها (بني حنيفة)، ومن أبنائها البررة الذين نذروا أنفسهم لتختلط دماؤهم بثرى أرضها الطاهرة كأصل طيب المنبت وكأسرة جُبلت على الحكم والإدارة كابرًا عن كابر!
– ما يميز الدولة السعودية أن نشأتها كان في المركز إذ لم تكن دولة طرفية أو قادمة من الخارج أو مدعومة من قوى أجنبية بل نشأت من رحم الوطن وإليه بسواعد أبنائها وكفاح رجالها وصمود أبطالها، ومعهم أبناء الشعب من قبائل الجزيرة ورجالها الأوفياء.. وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
– أن دولةً تشارَك في تسميتها أبناء شعبها لهي دولة نشأت على الشورى كدستور إسلامي ونظام حكم عادل، عملاً بقوله تعالى:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الشورى: 38]
– أن يوم التأسيس يحكي البدايات لاتساع رقعة الدولة، وهو مؤشر على الالتفاف حول القيادة، وعلى الترابط وإذابة الفوارق بين الحاكم والمحكوم كأبناء وطن واحد لهم ذات الهدف والرؤية والرسالة لبناء مستدام تتوارثه الأجيال، وهذا يستوجب الدفاع عنه والذود عن حياضه ليبقى أبيًا شامخًا مستعصيًا على الطامعين.
– إن إحياء ذكرى ذلك اليوم بمثابة تجديد وعد بأن نبقى على العهد ملتزمين بالشرع؛ دستورنا القرآن الكريم ومنهجنا سنة النبي ﷺ لا نحيد عنه؛ تبديلًا أو تغييرًا.
– الانتماء للأرض، والولاء للقيادة نشأ من حب متبادل وبذل روحي سخي وتضحيات مشتركة توحدت معها القلوب قبل النواحي والأراضي صنعها الوفاء والإخلاص كالجسد الواحد يشد بعضه بعضًا، ذلك ما يلمسه المواطن من حرص وتراحم وتواد وفيض عطاء ينعم به في ظل قيادة تجعله في الأولوية؛ رعايةً واهتمامًا.
– وأخيرًا.. أن الاحتفاء بيوم التأسيس يلهمنا أن نقرأ التاريخ، أن نفتش صفحات المجد، أن نعرف سير الأبطال، أن نستلهم العبر، أن نأخذ الدروس، أن نعرف عدونا المتربص، أن نستحضر تلك المعارك التي خاضها الآباء والأجداد – الذين تخضبت الأرض بدمائهم- من أجلنا، أن نتذكر تلك المآسي التي دارت جراء القحط والجوع وانعدام ذات اليد، أن نتذكر ذلك الخوف والتشبث بالأرض كالعِرض!
– أن نشكر النعم فيما نحن عليه من رفاه وأمن ورغد عيش، أن ندين بالفضل لله تعالى ثم لحكامنا الأوفياء، أن نظل ثابتين على ديننا وقيمنا وشيمنا وعاداتنا ومبادئنا، أن نبقى على العهد والوعد ما حيينا امتثالًا لقول الرسول ﷺ : (من مات وليس في ذمته بيعة فقد مات ميتة جاهلية).
– إن يوم التأسيس مفصليٌ بكونه إحياء للدين بعد أن عمَّ الجهل، وانتشرت الفوضى والشركيات ليعيد الناس للتوحيد الخالص؛ عبودية لله؛ تجردًا من كل ما يناهض الإيمان به سبحانه.
حفظ الله والدنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود؛ فخرًا وذخرًا وعزًا، وحفظ سمو ولي العهد الشهم الأبي الوفي الأمير المبجل محمد بن سلمان صاحب الرؤية والروية، الشجاعة والحكمة، الطيبة والوفاء، الشموخ والعزة؛ عضيد المليك، حبيب الشعب.. وحفظ لنا مملكتنا وشعبنا الوفي من كل سوء ومكيدة وشر.. اللهم آمين.