كونت الدرعية هويتها ضمن منظومة المدن الحاضرة بتشكلاتها الاجتماعية والتعليمية والثقافية؛ وذلك مع تأسيس الإمام محمد بن سعود للدولة السعودية في عام ١٧٢٧م- ١١٣٩هـ؛ وقد نشأت في بدايتها من محورين رئيسيين عبارة عن حيي “المُليبيد وغَصِيبة”؛ ليكون لها كينونتها الكاملة الادارية والسياسية والاقتصادية؛ وذلك ضمن شرائح المجتمع المختلفة العلياو الوسطى والدنيا؛ بحسب معيشة كل طبقة من الطبقات ومواردها المالية.
وتعني الدرعية التي تعتبر مدينة حاضرة من مدن اقليم اليمامة في الفهم العام عند علماء الاجتماع ودارسي التاريخ؛ المدينة المستقرة والمتمتعة بالكثير من المميزات وفي مقدمتها احتضان المجتمع بكل شرائحه، وارتباطها بما حولها من القبائل التي كان ولائها لحكم الأمام محمد بن سعود؛ ومع بداية توسع وتطور الدولة السعودية انضمت حواضر أخرى في اقليم اليمامة وشكلت بذلم دولة أكبر اتساعاً بشرائح مجتمعية متنوعة، وبتجانس بشري في وحدة سياسة واحدة، وبانتماء لحكومة مستقرة ذات سيادة.
وعند تولي الإمام محمد بن سعود شؤون المجتمع؛ خلال فترة حكمه التي امتدت لـ 40 عاماً؛ والذي تنوعت شرائحه وترسخت داخله عناصر الوحدة والتماسك والانتماء؛ إلى جانب ذلك فإن أي مجتمع مستقر يعتبر نشر التعليم والمعرفة من ضمن اولوياته؛ لذلك حرص الإمام أن تكون الدولة السعودية ذات سيادة مبنية على عنصرين أساسيين هما: العروبة والإسلام ولكلٍ منهما حمولته التاريخية والثقافية والمجتمعية، حيث كان ساداً في تلك الفترة “الكتاتيب” التي كانت على شكل كتاتيب خاصة إمّا في بيوت المعلمين والمعلمات أو التي كانت ملحقة بالمساجد، وكلها كانت تحت رعاية الأمام محمد بن سعود، حتى أنه في مجلسه الخاص كان يبدأ المجلس بقراءة القرآن، وقراءة القصص التاريخية وهو بذلك يؤسس لنوع من تثقيف المجتمع.
وواصل التعليم إنتشاره مع تطور الدولة وتوسع مساحتها وتواصلها مع أقاليم أخرى وتوحيدها و شهد تطوراً أكبر وتحولت “الكتاتيب” إلى مدارس أولية كان يشرف عليها علماء من أهل الدرعية، مثل: ابن عيسى؛ وهؤلاء كان لهم دور كبير في تثقيف وتعليم المجتمع؛ ومع رعاية الأمام محمد بن سعود للدعوة السلفية ازدادت مساحة التثقيف وبيان شؤون الدين للناس عامة، إضافة لرعاية العلماء وطلبة العلم ، مما أدى الى انتشار التعليم بصورة أكبر وشهدت المنطقة حركة علمية تتماشى مع تلك الفترات والأزمنة.
وحول ما يتعلق بعادات وتقاليد وأعراف المجتمع؛ فإنه عندما نتحدث عن الدولة السعودية الأولى التي تأسست على يد الإمام محمد بن سعود؛ نتحدث عن مدينة مستقرة هي: الدرعية التي توسعت في حكمها لتشمل مجتمعات كانت تعيش داخل مدن وبلدات وأرياف لها عاداتها وتقاليدها المختلفة، المنبثقة من هويتها الخاصة؛ فمثلاً عندما نتحدث عن الحروب وما كان يتم.. من إستعدادات لها فلا شك أن العرضة السعودية تأتي في مقدمتها لأنها حماسية مشجعة تُحفز المشاركين في تلك الحروب، مثلما نجده اليوم في الجيوش النظامية من عبارات وأناشيد الهدف منها بث الحماس والروح في نفوس الجند؛ كما أنّ العروض الشعبية الفلكلورية حاضرة في إقليم اليمامة مثل: السامري والعرضة وغيرها من الرقصات الشعبية التي ارتبطت بالإقليم على وجه الخصوص وبمنطقة وسط شبه الجزيرة العربية بصفة عامة، بالإضافة إلى بعض الأساليب الأخرى في الملبس الخاص بالرجال والنساء والضيافة من تقديم القهوة وتعطير الأجواء بالمباخر والعود.
وبالنسبة للطراز المعماري الذي كان سائداً في الدولة السعودية وفي كافة مدنها وبلداتها؛ بما فيها الدرعية واقليم اليمامة عامة؛ فإنه خلال فترة حكم الأمام محمد بن سعود كان نمط البناء يتناسب مع خصائص تلك المنطقة باستخدام المواد المحلية مثل: بناء الإمام لسور له أبراج لحماية الدرعية من الهجمات الخارجية، حيث كانت المواد المستخدمة مكونة من الطين والحجارة؛ وهي من البيئة المحلية التي تتسم بها منطقة إقليم اليمامة، والتي تتميز بنوع من البساطة وعدم التعقيد العمراني وهو طراز خاص؛ يختلف عن القرى والبلدات في غرب شبه الجزيرة العربية أو في شمالها أو في شرقيها، مضيفاً أن فترة حكم الإمام شهدت تطوراً في انماط العمران مثل: قصر سلوى المتميز بنمطه المعماري الجميل، والمكون من مساحات خارجية، وقاعات متسعة تتناسب كلها مع بيئة المنطقة.
ويبقى الحديث عن يوم التأسيس؛ حديث عن ترسيخ العمق التاريخي للمملكة العربية السعودية فالملك عبد العزيز -رحمه الله- عندما وحد المملكة.. استعاد ملك آبائه وأجداده الذي بدأ عند تأسيس الإمام محمد بن سعود للدولة؛ وما تعارف عليه المؤرخون من أن الدولة مرت بأدوارٍ ثلاث؛ هي في حقيقتها دولة واحدة، وكان عام 1139هـ- 1727م اللبنة الأولى لدولة كبيرة عربية مسلمة لها جذورها؛ كون المنطقة التي نشأت بها الدولة واسرتها الحاكمة مسلمةً عربية متجذرة بعمق ، واستمرت طوال فترة حكم الملوك.. عبد العزيز، وسعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله -رحمهم الله- حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- الذين دائماً ما يؤكدون في تصريحاتهم على هذه الأبعاد التي لها من العمق التاريخي الكثير سواءً البعد الوطني كونها دولة تمتد لأكثر من ثلاثة قرون، أو البعد العربي والإسلامي الذي تعتز به المملكة العربية السعودية اليوم؛ كونها حاضنة الحرمين الشريفين قبلة المسلمين.
وترسخ كل هذه المقومات ترسخ الهوية لهذا الكيان الذي يعتبر اليوم من أهم الكيانات السياسية في العالم ومن ضمن دول قمة العشرين، ومن الدول المؤسسة للكثير من المنظمات الدولية كجامعة الدول العربية ، والأمم المتحدة كدلالة على أن هذه الدولة التي لها عمق تاريخي هي دولة مؤثرة تستند على هويتها الوطنية الخاصة.
———————-
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك عبدالعزيز