خمسة مرتكزات رئيسة تقوم عليها القيم المتضمنة في يوم التأسيس كما يبدو: الأول، أن الدولة السعودية ليست طارئة على الزمان والمكان، وإنما خرجت من رحمهما، فليس فيها مُكوِّن أجنبي، ولم تأتِ من سياق مختلف، بل تشكَّلت من الناس في حقبة زمنية كان الناس خلالها أحوج ما يكونون للم الشمل وتوحيد الصف، ففعلوا. الثاني، أن الدولة السعودية، بمركبات زمانها ومكانها وناسِها، قد حظيت بولاء عظيم وامتنان كبير، فالتاريخ قد أكّد أنه ما إن ضعفت الدولتان السعوديتان الأولى والثانية، إلا وسرعان ما عادتا بقوة، يدفعهما للعودة ولاء الناس ودعمهم لأئمة الدولة السعودية، ونباهة الإمامين -رحمهما الله-: تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، وعبد العزيز بن عبد الرحمن، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، وإدراكهما لحقيقة الولاء لآل سعود في أوساط المجتمع وفي العديد من مكوناته. الثالث، واجهت الدولة السعودية الأولى، والثانية من التحديات ومحاولات الاختراق، والأطماع الخارجية الشيء الكثير، وتكالبت عليها قوى حزبية بائسة أرادت النيل منها كيانًا وفلسفة للكون والحياة، ومن المفارقات العجيبة أن قوى الشر تلك ما فتئت حتى يومنا هذا تحاول النيل من بلادنا، وتدفع في اتجاه التشكيك في كثير من تفاصيل عيشنا، ولكن، بفضل الله، تصدينا لكل ذلك قيادة ومجتمعًا، فدحرنا قوى إرادات الاختراق بتنوع مآربهم في الغلو والتطرف والإرهاب تارة، وفي التكتلات السياسية المشبوهة تارة أخرى، وفي محاولات تطويق بلادنا بقوى الشر تارة ثالثة، ولقد استطعنا، بحمد الله، ثم بيقظتنا، أن ننأى ببلادنا عن مقاصد المفسدين، وأن نزيدها منعة وتمكينا. الرابع، أن فكرة الوحدة الوطنية التي عملت عليها الدولة السعودية الأولى، والثانية، والثالثة، والعمل وفق مبدأ تعزيز ثقافة الكتلة الوطنية الواحدة المنيعة في مواجهة التحديات من جانب، ومن جانب آخر الفاعلة في تمكين برامج ومشروعات التنمية الشاملة، تعد من أقوى الوحدات التي عرفتها الجزيرة العربية في العصر الحديث. الخامس، أن “الإنسان” السعودي كان وما زال مرتكز اهتمام الدولة السعودية، ومناط توجيه مكتسبات ومقدرات الوطن، حيث عملت الدولة السعودية في عهديها الأول والثاني، وتعمل في العهد الحالي، بكفاءة عالية، على بناء الإنسان السعودي المتمكن من أدوات العيش الكريم، وسخّرت في سبيل ذلك جل ما تملكه من بنى فوقية وتحتية.
تلك المرتكزات الخمسة، مكتسبات تاريخية لبلادنا، ممتدة لثلاثة قرون، وهي، في ظني، ما يمكن أن ننظر ليوم التأسيس من خلاله، عبر طرح العديد من الأسئلة التي من أبرزها، هذا السؤال المهم: كيف يمكن تعميق نقل هذه القيم وتعزيز حضورها في ذاكرة الجيل الناشئ؟
وسوف تستند الإجابة على هذا السؤال، على العديد من المحاور، أبرزها:
– خصوصية معاني يوم التأسيس، وملامح هذه الخصوصية في ذاكرة التاريخ السعودي، وما يعنيه تأسيس الدولة السعودية، وتعاقب حِقبها، من معانٍ كُلّية وقيم مهمة وعميقة في ماضي، وواقع ومستقبل الإنسان السعودي.
– النظر لمعاني وقيم التأسيس واستمرار الدولة السعودية وتمكينها، باعتبارها مادة قابلة للتعريف بها لدى الأجيال الناشئة، عبر إدماج معاني وقيم التأسيس في العديد من مساقات نقل المعرفة في التعليم، والثقافة، والإعلام، وغيرها، من خلال توظيف الأشكال والمضامين والوسائل الأكثر فعالية.
– العمل على جعل معاني وقيم التأسيس مستمرة طوال العام، وحائطًا منيعًا أمام إرادات الاختراق.
بناء على ما سبق، ومع أهمية مظاهر الاحتفالات الجماهيرية والرسمية في يوم ذكرى التأسيس، فإن المرحلة التاريخية التي تعبرها بلادنا اليوم نحو مزيد من التمكين في النطاق العربي والإسلامي والدولي، والإرادة الحازمة التي تتمتع بها القيادة الرشيدة، والمعاني والقيم العظمى ليوم التأسيس، والعلاقة المترسخة بين إنسان هذه الأرض والدولة السعودية بكافة خصالها وسماتها، كلها أمور تدفع في اتجاه، أن أقترح تشكيل كيان مؤسسي رفيع، في شكل “هيئة عامة”، أو “هيئة عليا”، تتبنى معاني وقيم يوم التأسيس وتجعلها مشروعًا وطنيًا مستدامًا، يزرع العزة والمنعة في نفوس الجيل الناشئ، ويرسخ معاني الولاء لهذا الكيان الكبير الممتد في عمق التاريخ، ويوضح مناقبه، ويكفل قدرًا عاليًا من محبته، والدفاع عنه على أساس من الاستبصار بحقائقه الزمانية والمكانية، وناسه على مر العقود الطويلة.
وسيتطلب الأمر أن تسعى هذه الهيئة، في حال وجودها، وفق مسارين تنظيمي وتنفيذي، على بناء شراكات استراتيجية مع كافة مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية، لإنتاج منتجات محترفة، بحسب طبيعة واختصاص كل مؤسسة مجتمعية، تخاطب العقل الفردي والجمعي في المملكة، وتنسجم مع مستوى التلقي النشط الذي يتمتع به الجيل السعودي الشاب اليوم، الذي يمتلك، بفضل الله، كافة وسائل الاتصال والتلقي والتفاعل، التي يمكن لهذه الهيئة توظيفها بكفاءة عالية من أجل صناعة المحتويات التواصلية وبثها ونشرها، وتعميق فهمها عبر كل ما يمكن من وسائل وأدوات التعليم والتنشئة في المجتمع، وبحيث تكون ثقافة الإبداع والابتكار والاحتراف، ضابطًا رئيسًا لكل ما ينتج عن هذه الهيئة أو شراكاتها المجتمعية من منتجات تعريفية وتوعوية وطنية.
إن صناعة الإنسان السعودي وتمكينه، ملحمتان تاريخيتان جسورتان، تقلدناهما منذ ثلاثة قرون، ولا نزال نعبر بهما كل سهل ووعر في مسيرتنا التنموية وسياستنا الخارجية، وهما ملحمتان تستحقان كيانا كبيرا بحجم هيئة عامة أو هيئة عليا تستحضر كل ما يمكن أن يقال وكيف ومتى يقال، على مدار العام، ثم تفعل ذلك بكفاءة عالية، لتجعل هاتين الملحمتين حاضرتين في وعي الشباب السعودي، كما يجب أن تحضرا.
———-
أستاذ الإعلام المشارك
بجامعة الإمام