إعلان يوم التأسيس للدولة السعودية الأولى في 22 فبراير من كل عام، قرار حكيم وتاريخي واستثنائي لذكرى إنشاء كيان الدولة على يد الإمام محمد بن سعود، والتي تجاوزت حدودها أطراف الجزيرة العربية، وكان لمستوى تأثيرها في تلك الفترة الدور الأكبر في إحيائها لمرحلتين لاحقتين تمثلت في قيام الدولتين السعودية الثانية والثالثة بعُمق تاريخي امتد لثلاثة قرون تقريبًا على أساس متين من الحكم الإسلامي، واستحضار يوم تأسيس الدولة السعودية الأولى، بمثابة امتداد أصيل وطبيعي لحرص واهتمام قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في الحفاظ على التاريخ السعودي أولًا وتاريخ الجزيرة العربية ثانيًا، وما يوليانه من عناية فائقة بالمصادر التاريخية الحقيقية والموثوقة، ويُعد ذكرى وطنية وفخرًا للمملكة يستحضر من خلالها الأحفاد تضحيات الآباء والأجداد، وما كابدوه من تحديات في سبيل بناء وطن يمتد تاريخه لثلاثة قرون.
لقد شاءت إرادة الله أن يقيض لهذه الأرض أسرة آل سعود؛ لتظهر على مسرح الحياة السياسية في نجد في أواسط القرن الثاني عشر الهجري، وتصبح عاملًا مهمًا في بروز هذه المنطقة لتشارك في صنع التاريخ من حولها. فالجزيرة العربية وبخاصة وسطها واجهت إهمالًا لا مثيل له من قبل الدول الحاكمة، كان الجهل بأمور الدين سائدًا في شبه الجزيرة العربية بسبب غياب التعليم والفقر والاضطرابات الأمنية، وعدم وجود دولة ترعى مصالح الناس وتنشر العلم؛ إذ أسقط العامة فروض العبادة وتركوا أركان الدين وانتشرت البدع والخرافات والتوسل بالقبور والأضرحة، وطلب الشفاعة من الموتى والتبرك بالأشجار والأحجار، والاستعانة بها على دفع الضر وجلب النفع، وتوافق ظهور أسرة آل سعود مع قيام الدعوة الإصلاحية السلفية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانت هذه الدعوة في الأساس رد فعل على الإهمال العلمي والديني والحضاري لهذه المنطقة التي حرمت كل ما تمتعت به الحواضر الإسلامية الأخرى، واجتمعت الدعوة الدينية المجددة والقوة السياسية الناشئة لتكونا دولة قوية، استمرت خمسة وسبعين عامًا.
ونحن نستعرض اليوم هذا الحدث التاريخي العريق والمتجدد في استمراريته التاريخية المتمثلة في دولة اليوم وعاصمتها الشامخة رياض المجد، فلا بد أن نتذكر بأن المملكة ليست دولة حديثة تاريخيًا ولا جغرافيًا، بل دولة جذورها ضاربة في عمق التاريخ لثلاثة قرون من العمل للحفاظ على كيان الدولة بعد أن عانت جزيرتنا العربية لعقود طويلة من ويلات الفرقة والشقاق والنزاعات، نستذكر في هذا اليوم الانطلاقة الأولى لتأسيس الدولة السعودية الأولى قبل ثلاثة قرون على يد الإمام محمد بن سعود في عام 1139هـ الموافق 1727م، وفيه نثمن ونقدر عزيمة الرجال العظماء الذين أسسوا هذا الكيان وضحوا بأرواحهم للمحافظة على وحدته ومكوناته، واستمروا جيلًا بعد جيل بنفس الهمة والعزيمة مدافعين عن وطنهم على أسس راسخة ونهج قويم.
ولا شك أن لهذه المناسبة معانيها التربوية المهمة التي يجب توظيفها في الميدان التعليمي والتربوي العام والعالي؛ لتنعكس على بناء الإنسان والمكان، والمحافظة على المقدرات والمكتسبات التي تحققت بتضحيات قادة وأبناء هذه الأرض المباركة عبر تاريخها الطويل، وأبرزها تلك المعاني توحيد المجتمع على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والعودة به إلى العقيدة الصحيحة، ونبذ البدع والخرافات وكل ما يدعو إلى الفرقة أو إثارة النعرات، والعمق التاريخي الطويل لوطننا مما يعزز مشاعر الانتماء والولاء لهذه الأرض الطيبة ولقياداتها المتعاقبة التي ضحت بالغالي والنفيس لحفظ الأمن والاستقرار، والاعتزاز بالهوية الوطنية وقيمة الوطن ومكانته التاريخية، والتفرد بعدم خضوعه للاستعمار وتبعاته عبر تاريخه الطويل.
وتوعية الأجيال بالتاريخ وأهميته ودوره في بقاء الأوطان، وفهم الأحداث التاريخية التي عاشها وطنهم، والوعي بالتحديات التي تواجه المجتمع والطرق المناسبة للتعامل معها في ضوء الاستفادة من الدروس التاريخية العظيمة، وإبراز قيمة التعليم وأهميته ودوره في النهوض بالأوطان، فقد عنيت الدولة السعودية الأولى بالتعليم الشرعي وعلوم القراءة والكتابة والحساب من خلال ميثاق الدرعية مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والاهتمام بالتعليم والتعلم والرهان عليه والإسهام الإيجابي في مشروعاته التطويرية على المستوى الفردي والجماعي للوصول إلى الكفاءة والفاعلية المنشودة في التأثير الحضاري على مستوى العالم، والتماسك والاندماج الثقافي وسائر الروابط الاجتماعية التي تعزز من قيمة الوحدة الوطنية وديمومتها، وترسيخ القيم الإيجابية التي يجب أن يسعى كل مواطن على تحقيقها في وطنه كقيم الانتماء والولاء والتضحية، والايمان بالهدف والتعاون والمشاركة والقدوة والحوار، والمحافظة على النظام، وتقدير العلماء، واحترام القيادات والأمن والاستقرار، والانفتاح الواعي على العالم والمساواة، ومحاربة العنصرية والتمييز.
والوعي بالقضايا المعاصرة التي تهدد الوحدة والوطنية والأمن والاستقرار كقضايا التطرف الديني والأخلاقي بكل صورها وأشكالها وقضايا التحريض على الأوطان وقياداتها، وقضايا المخدرات والآفات التي تهدد صحة وسلامة المواطن، وتقدير قيم الحريات الممنوحة والمسؤولية الوطنية تجاهها في هذه المرحلة الوطنية من التحولات النوعية التي تعيشها بلادنا والتي فيها أعيد اكتشاف مقوماتنا الوطنية البشرية والطبيعية ومستوى تأثيرنا العلمي والحضاري على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والوعي بسياسة الانفتاح الاقتصادي على الاستثمار على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل مع الدول الشقيقة والصديقة، وتنويع مصادر الدخل والتحول من نمط الاستهلاكي إلى النمط الإنتاجي لتحقيق الرفاه الاجتماعي، وإدراك الفرص النوعية التي أتاحتها رؤية المملكة في 2030 والمنافسة عليها.
إن ترجمة هذه المعاني التربوية في ممارساتنا التعليمية والتربوية هي ضرورة وطنية تنسجم مع إعلان يوم التأسيس ومع اليوم الوطني؛ حيث لم يعد كافيًا استرجاعها بشكل روتيني وتقليدي فقط بمناسبة هذين اليومين الوطنيين عبر وسائلنا الإعلامية ومناشطنا التربوية في مؤسسات التعليم المختلفة، وقد يكون من المناسب تبني مبادرة وطنية لترجمة المعاني التربوية في يوم الـتأسيس واليوم الوطني؛ بحيث تتضمن أهدافها وبرامجها ووسائل تقديمها وتطبيقاتها وقياس مستوى تأثيرها بشكل دوري بما يضمن ترسيخ العمق التاريخي الوطني في نفوس الأجيال للدولة عبر أطوارها التاريخية الثلاثة؛ لينعكس على التكوين الثقافي للمواطن السعودي.
وفي يوم التأسيس رسالة نوجهها لمن قصروا في حق وطنهم، وأساءوا له، مفادها أننا بالأمس عانينا من ويلات المتاجرة بالدين لسنوات طويلة حتى أوشكنا على فقدان الحياة الطبيعية التي يعيشها غيرنا من البشر على وجه الأرض، واليوم نعيش حالة أشد خطرًا وهي المتاجرة بالوطن، من قبل ثلة لا تخجل ولا تتورع عن الإساءة لوطنها بدواعي ظاهرها المطالبة بالحقوق والحريات وباطنها السم الزعاف لزعزعة أمن واستقرار وطنها والبحث عن المصالح الشخصية، إنها صورة من صور الخيانة المعاصرة التي طغت فيها المصلحة الفردية على مصلحة الجماعة بوعي متعمد، وفي نفس الوقت بتجاهل متعمد للجوانب المضيئة والإصلاحات الحقيقية والإنجازات البارزة لوطنها، مستغلين التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة في بث سمومهم ومستهدفين الشباب على وجه الخصوص في ظل قصور تعليمي وتربوي في دراسة تاريخ بلادنا وترسيخ قيم المواطنة الحقيقية.
للمتاجرين بالوطن صور عديدة كالانتقاص من مواطنيه، واتهامهم بالجهل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واستثارتهم ضد قياداتهم ورموزهم السياسية والتقليل من إنجازات وطنهم ونجاحاته والنقد غير الموضوعي لسياساته وعلاقاته الدولية، والتعاون مع الخصوم وتنفيذ أجنداتهم والإساء المباشرة لرموزهم السياسية وتشويههم، إنشاء التنظيمات السياسية في الخارج، تضليل الرأي العام وخداعهم بقضايا وهمية والتباهي والافتخار بالتكسب المالي من جراء ممارساتهم والتغرير بالشباب والفتيات للخروج من بلادهم وعلى حكامهم، وتشويه تاريخ وطنهم واستغلال أسرهم وأصدقائهم، والتلاعب بعواطفهم وقبول التمويل الخارجي، والتميز في نشر الشائعات.
إن المتاجرين بوطنهم لم يدركوا المعنى الحقيقي للمواطنة، ولم يستشعروا دفئه والأنس بأمنه واستقراره ولم يتلذذوا بخيراته، وتجارتهم فاسدة طال بهم الزمان أو قصر، ولا سبيل للقضاء على صور المتاجرة بالوطن إلا بالتوعية من خطرهم وتفنيد حججهم وادعاءاتهم من قبل المفكرين والمثقفين والقائمين على وسائل الإعلام والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي للحفاظ على مكتسباتنا الوطنية وحماية شبابنا من أفكارهم الهدامة، وعدم اليأس من دعوتهم لمراجعة أنفسهم واحترام وطنهم وقياداته ومواطنيه وأداء حقوقهم التي كفلتها الشريعة الإسلامية.