لقد كان خلق أبي البشر آدم عليه السلام نواة لنشوء البشرية جمعاء.. فقد خلق فردا من بني جنسه فلما استوحش ووجد في نفسه الغربة وما في حكم العزلة؛ إذ النفس تنزع لما يشبهها- وإن كان في الجنة تحُفَه الأرواح الملائكية إذ النعيم المقيم لا صخب ولا رهب- إلا أنه ميل فطري سليم، وحكمة إلهية أرادها الله، فخلق له إذ ذاك حواء من ضلعه مع قدرته- سبحانه وتعالى- على خلقها من الطين أو مما يشاء مستقلا عنه، لكن لتكون منه، وإليه تحن وتأوي لا تنفك عنه بل لا يستغني أحد الجنسين عن الآخر في تكامل متسق وتناغم متجاذب!!
فما إن بدأت بذرة الشر الأولى للصراع الأنسي الشيطاني حتى بدأت رحلة الشقاء والتعاسة المختلجة بالندم والإنابة فكانت رحلة الهبوط إلى الأرض لتبدأ بعدها فصول المعاناة {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [البقرة : 36]
وهنا في الأرض قصة أخرى حيث الجدب ورحلة التنقل ومن ثم عناء العيش وبدء النسل والتناسل في تنامي لأعداد البشر إلى جهد التربية والدعوة إلى الله في تحد قائم مع عدوٍ لدود ليحول بينه وبين غوايتهم وإغراءات الشيطان الرجيم كي لا يقعوا في حبائل شراكه أو ينخدعوا بمكره وغيَّه كما خُدِع أبوهم من قبل {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء : 120]
ثم هي العصور تتوالى تباعا، والأزمنة تمر مرورا حثيثا لتلتهم أناساً بل أجيالا لتعقبها أخرى في حين يلعب الشيطان بحبائله ليحظى بقسط وافر من قسمته من بني البشر، كما وعد بذلك {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة : 19]
وما إن تكاثر الناس في الأرض حتى أصبحوا شيعا متفرقين وأعدادا متناثرين جاءت الحاجة لبناء شجرة النسب لينتمي كل إلى أبيه الذي هو أصل التمييز في الأرث والموروث كحكمة إلهية تحفظ من خلالها الأنساب وتقام على إثر ذلك الحدود وتسك العادات وتتبنى الأديان والمعتقدات بل تتسمى كل فرقة بلقب تتفرد به كعصبة يأزر إليها أفرادها وقت الحاجة أو تستعين بها وقت الفاقة أو تستصرخها للنجدة إذا ما نابهم الخطب أو قرعت طبول الحرب أو هاجمهم العُدا، وكل ذلك بأمر الله وحكمته {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13]
إلا أن تلك التعددية ينتفي معها التفاضل في النسب كونها في مجموعها تنتمي لأب واحد وأم واحدة، هما آدم وحواء، وإن اختلفت المسميات والألقاب أو الألوان والمواقع،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع :”ايها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟، اللهم فاشهد».
ومع كل ذلك يبقى لتلك التعرفة القبلية أهمية دينية ومكانة في التصنيف المجتمعي كحفظ للأنساب وكتكتل بشري يعرف بعضهم بعضا ليحصل الترابط وتستقيم الصلة وتقوى أواصر الرحم والقرابة بدلاً من التشتت والهيام الذي مؤداه التفرقة في خضم الفجاج ومتاهات الضياع دون أن يكون هنالك وشائج تشد بعضهم بعضا، كما أن قيمة القبيلة على مرّ العصور تمثلت في عامل القوة كنفوذ حماية أو مقاومة أو اعتداد، والأهم كانت مترساً للقيم والشيم التي هي بمثابة منظومة أخلاقية تضبط تصرفات الأفراد والمجتمع، وتنظم علاقتهم وتوحد مرجعيتهم تحت أمرة قائد واحد هو شيخ القبيلة، مما يجعل الأفراد يلتزمون بذلك النسق الأخلاقي كميثاق يحافظ على شرف السمعة ويردع المارقين بعقوبات تعيدهم لتلك البوتقة النبيلة، وهذا ما جاء على لسان المصطفى ﷺ: ( أتريد أن يقال أن محمدا يقتل أصحابه)
ومن هذا المنطلق فإن القبيلة لم تكن يوما ما عنوانا للعنصرية كما لم تكن مهددا ينذر بخطر بقدر ما كانت تجمعا تشكل من أسرة ثم تفرعت وتعددت وانتشرت فأضحت تتعلق بأستار ذلك المسمى الذي جعله الله للتعارف واستمرار الصلة وتوثيق الروابط؛ حفظا للنسب وجلبا للنفع!
وهي في ذات الوقت تعد حصانة ورصانة وضابط ومرجعية دينية أخلاقية ومصدر قوة ومنعة للدولة كونها تسخر أبناءها لخدمة المجتمع كمبدأ تُنشيء عليه أفرادها كما تذود عن الأرض والعرض كإحدى أولوياتها، ومع هذا لم تكن ندا للدولة بقدر ماهي مكون أساس في منظومتها المجتمعية؛ ينخرط أفرادها في ميادين العمل المدني والمهني، كما يشكلون قوة الجيش والأمن ليلبوا نداء الوطن للذود عن أرضه وحياضه وليدفعوا الشرور والعدوان إذا ما حاول الأعداء الأقتراب منه.
وفي مملكتنا العزيزة ومنذ البدايات الأولى للتأسيس كانت القبيلة الداعم والرافد الأول الذين آزروا ووقفوا صفا واحد لطرد الغزاة وتوحيد البلاد تحت راية واحدة، كما هو الحال في كل نازلة على مر العهود ليثبتوا أنهم قوة ضاربة على الوعد لم تزل بهم القدم، وهاهو التاريخ يعيد نفسه في حرب اليمن الحالية التي أبانت مدى الجسارة والإقدام بل عمق الوطنية وروح الفداء؛ حبا وتضحية من أجل الوطن والقيادة والشعب!!
الجدير بالذكر أن القبيلة لم تكن ولن تكون عائقا أمام التنمية أو حجر عثرة في طريق التقدم والتطور كما لم تكن نذير شر كما يروج لذلك الأعداء أو من في قلبه مرض، بعد إذ رأوها جداراً صلبا وبنيانا مرصوصا يصعب اختراق حاجزه أو التغلغل في داخله بما يتمتع به أفراد المجتمع من وعي تام وقيم أصيلة وارتباط قوي بثرى وطنهم، لتكون لهم القبيلة شعار وحدة ورمز شهامة وقوة، ولتشكل في مجموعها مكون مجتمعي تصطف كمنظومة وطنية موحدة كشعب واحد، ومقوم من مقومات البناء المعرفي والتنموي على مختلف الأصعدة، ليتدثر أبناؤها الانتماء، ويتشربون الولاء بقلب محب وضمير حي ووجدان صادق معتدين بذلك الوفاء كعقيدة راسخة وقيمة شامخة.