إنها الطائف، وإنه الشعر، وجهان لسحر واحد، فمنذ أن خفق قلب عكاظ بنبض شعراء العربية الأوائل، لم يتوقف ذلك النبض، ولم يخفت رفيف رئته قط، فإن لم تصدح به حنجرة، بثته وردة عبيرا من حمرة خديها، أو فززت مكنوناته عنبة رازقية، أو ترنم على أشطره نغريٌّ ثمل، أو دلقته حسناء على ساقية البئر، أو رنّ به وتر محموم تذوب في تهويماته القلوب، أو روته لوزة عن حماطة عن عُنّابة عن مشمشة عن سفرجلة عن (ليمة).
إنها الطائف، اختارها الفيصل عاصمة للشعر العربي في 2022م، أحيا عكاظ حتى استوت على سوقها نخلة باسقة فوق أشجار المهرجانات العربية، ثم لأنه حصيف الرأي، ثاقب النظر، صنو الوفاء؛ مد ملاءات الشعر على الطائف سهلا وجبلا، وفاءً لهذه المدينة الشاعرة، فانطلقت أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف التي يرأس سموه مجلس أمنائها، تؤلف أوتار الحناجر، وتنسج أخيلة الشعراء، وتعصر مشاعر الأفئدة، لتعزف سيمفونيتها الفاخرة الأولى في (جادة الشعر) بالطائف.
إنه الشعر، حين ينفث روحه في المكان، تدب الحياة في كل شيء، وهكذا كانت الحال في الطائف، حين انطلقت جادة الشعر بخمس ليال مشمسة، خمس ليال شاعرة، اكتنزت بالجمال والعذوبة والوفاء، تكفي متأمليها عناء البحث عن ماهية الشعر ودوره في الحياة والمجتمع، فقد حضرت كل الفنون على مائدة الشعر (الغناء/ الموسيقى/ الإنشاد/ الرسم/ التشكيل/ الخط/ التصوير) وهل تظنون أن (أبا الفنون) غاب عن المشهد؟ كلا لقد كانت الجادة مسرحا عملاقا، يمور بحركة صاخبة، تشاهد على صدره ما يفعله الشعر بالإنسان، وكيف احتشدت كل تلك الجموع من مختلف الفئات والأعمار في ليالي جادة الشعر، هذا يستمع إلى قصيدة، وذاك يستلم ديوانا موقعا من شاعر، وتلك تتأمل الصور العلاقة للشعراء السعوديين والعرب، وذاك يتلذذ بمعزوفة موسيقية، وآخرون يؤدون رقصة أثيرة، وتلك تتصنم أمام رسامة البورتريه لتلتقط ملامحها في لوحتها الحلم، وذاك يصور يد الخطاط وهو يخط اسمه بأناقة الحرف العربي.
إنه الشعر، حين اندلقت هتافات الجماهير لشاعر صنع أجنحة اللحظة، حتى انهمرت أكفهم تصفيقا حارا لمحاضر طوّف بهم في أكوان الشعر، إلى استقبال فرق وأندية شعرية، وقامات نقدية، وثلاثمئة ألف وردة طيّرتها الأكاديمية، فنثرت عبيرها الساحر على رؤوس الشاعرين، لتقول: إنها الطائف (مدينة الشعر والورد).
دخلت جادة الشعر مزهوا أمشي على أعناق الكلمات، وأعانق كفوف المعاني، أتأمل تفاصيل البهجة والنشوة في كل الوجوه التي عبرتني، أدباء ومثقفين وفنانين وإعلاميين وأكاديميين وعامة من السعوديين والمقيمين العرب وغير العرب، يتنقلون بين أنحاء الجادة جذلى، لسان حالهم يقول شكرا خالد الفيصل، شكرا أكاديمية الشعر العربي، شكرا جامعة الطائف، لقد طببتم أرواحنا بالشعر بعد عزلة كورونا.
إنه الشعر، وجه مشرق قادم من وجوه السياحة، يبث الحياة في الجمادات حتى يستنطق مكنوناتها، ويغرق الأرواح دفئا يظل قائما في محرابها آناء الحب والسلام، لا تحرم منه إلا الأرواح الجاثمة في جب البؤس والظنون المظلمة، فروح الشعر تعشق التحليق في أكوان الضياء، ولأني من المحسوبين على الشعر، أرفع التهنئة والشكر إلى الفيصل والأكاديمية والجامعة والمحافظة ووزارة الثقافة، وكل أولئك المضيئين الذين بثوا روح الشعر في حديقة (السداد) حتى تشيأت حياة (جادة للشعر) كائنا شعريا في الذاكرة، لن نرتضي أن يمر اليوم العالمي للشعر دون أن نصافحه، واسمحوا لي بشكر خاص إلى ذاك المضيء الموهوب (الدكتور منصور الحارثي). دمتم، ودام الشعر بالطائف، ودامت الطائف بالشعر، وعليكم السلام.