{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم : 21]
الأصل في الزواج أن يقوم على التوافق والانسجام قبلا، ثم يردف بعد بالمودة والرحمة ليقوم بناء الرابطة على أسس من العلاقات المتينة التي لا تزعزعها موجات الحياة العاتية بأنواع الأزمات الخانقة؛ اقتصادية أو حتى أسرية لترقى لمستوى التضحيات التي تقف في وجه التحديات العارمة لتثبت متانة تلك العلاقة وصمودها أمام الصدمات!!!
ياترى، أيهما أجدى لعلاقة زوجية مستدامة الحب المسبق الذي يتمخض عن زواج عاطفي أم الزواج التقليدي الذي يبنى بصورة رئيسية على مقاييس معينة يحددها طرفا الشراكة مسبقا؟!
▪️ جدلية قائمة على إتجاهات متباينة أو اجتهادات شخصية يضع كلٌ مبررات لرأيه أو يسوغ لما يذهب إليه من قناعات.. إلا أن الواقع يصدق هذا القول أو يكذبه!!
قد ننحاز لرأي على حساب آخر بناء على رؤيتنا، وقد نعارض آخر، إلا أننا في الحقيقة أمام مشكلة بدأت تتنامى لتصبح ظاهرة خطرة تهدد الأمن النفسي والاستقرار الأسري بل قد يكون الأطفال الضحية جراء التشرد وتشتت الأبوين نتيجة الانفصال، وبالتالي تتحول من علاقة شخصية لمشكلة مجتمعية تفرز أجيالاً تعاني الحرمان وربما الحسرة أو الضياع فيما لم يجدوا الرعاية المتوخاة من أحد الأطراف أو من حاضن آخر!!
▪️ من يلحظ التقرير البياني لوزارة العدل لشهر ذي القعدة لعام 1441هـ ليجد أرتفاع نسب الطلاق بما يفوق 50٪ من إجمالي الزواجات في كثير من الأشهر مما يعني تفاقم المشكلة وتعدد أسبابها وبما يدعو للبحث وإعمال المراكز المتخصصة للتحقق من وجود خلل تبنى عليه هذه الزواجات أو تكون سببا مباشرا في حدوث الانفصال، كي تضع حلولا مقترحة تحد من تطورها، كي تؤسس قواعد ثابتة ترسخ معنى العلاقة المقدسة وتحترم ميثاقها الأخلاقي دون أن يكون للأهواء رأي آخر!
▪️سنعود مجددا لما سبق؛ لتأكيد أيهما أجدى وأقوم لزواج سعيد ومستدام في ضوء منهج قويم وفق ما جاء عن النبي ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى( تُـنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك).
أليس هذا تأكيد وبيان على أنه لا مجال للعواطف في مجال الزواج كما لا مكان للمصالح المبتذلة القائمة على تبادل المنافع؟!! فالزواج عقد شرعي ولابد أن يقوم على أسس صريحة صحيحة قوامها النية الصادقة والمصارحة الواضحة.. إذ يقوم على مبدأ أخلاقي وليس عاطفي، أي أن ما يمت للعاطفة سيتغير بتغير عوامل الرضا والغضب أو دوافع الحب والكره وكأنها تتبع للمزاج.. وتلك تابعة متغيرة لا مستقلة، أما ما يتعلق بالأخلاق فتلك ضابط رادع للأهواء ومستمسك للاستقرار، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يَفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر أو قال: غيره )رواه مسلم.
والمعنى أن الخُلق يحتم على الزوج تحكيم العقل وإن نابه منها وجه غير مرضي فستكون هنالك حسنات تغطي ذلك النقص أو الخلل ولا مقايسه على جانب واحد على حساب الجوانب الأخرى لأنها نسبية في مدى التكامل الشخصي المتزن(الروحي الجسدي العاطفي المهاري) كما أن الانتقاء يعد تبعيضا وتضعيفا لما تبذله من عمل مضني وما تقدمه من تضحيات يجب أن تكون مقدرة ومشكورة.
▪️ وسأعرض هنا بعضاً مما أراه سبباً لنشوء الخلافات التي قد تفضي للطلاق، ومنها:
o ضعف الوعي بما للشريك من واجبات مع طغيان المطالبة بالحقوق أو الفهم المغلوط في هذا الشأن.
o التفاوت في المستوى الثقافي أو الاقتصادي يفرز طبقية تحاول فرض إيدلوجية على الآخر بما لا يتقبل أو لا يتمكن من المجاراة تبعا للمستوى التعليمي أو الثقافي أو الحياتي أو الاقتصادي فيتولد اختلاف وسوء كيل!
o عدم الوعي بأنماط الشخصية كأن يكون أحدهما بصري والآخر سمعي أو حسي فيجد أحدهما فارقا في التعامل قد يفهم خطأ بأن ذلك أسلوب متعمد أو ينم عن صلف أو عناد أو برود؛ بحسب نمط كل شخص، فيتأجج صراع عن سوء ظن أو فهم يتنامى لخلاف فشقاق وربما انفصال!
o تشكيل صورة ذهنية سابقة أن الحياة الزوجية وثيرة مبرأة من كل خلاف أو اختلاف بناء على خيالات أو مثاليات مستوحاة من مجتمع افتراضي أو مستنسخ من حبكات درامية تبث في الروع افتراضا خاطئاً يترجم لوجدان خصب لا يتقبل سوى الكلمات المنمقة الواعدة بـ(فهرس)من ترنيمات وعبارات مُجابة، ليس فيها ما يوحي بالرفض أو النقاش!
o طغيان الأنا وحب التملك على العلاقة، بحيث تختفي مفاهيم الإيثار والتضحية، وربما عبارات الشكر والثناء والامتنان، فما يعمل أو يقدم حق مستحق وليس تفضلا، مما لا يستحق ذكره!!!
o كما أن الذاتوتية تقف حائلا دون أن يتشارك مع الزوج قريب من أولى الناس بالصحبة إلى من تربطه بهم رابطة النسب أو السبب فلا زائر ولا مزور، ولا عاطف أو معطوف.. أنا وأنا فقط!! مما ينشأ في عن ذلك محاولة انعتاق مما يراه استحواذا جائرا أو تملكا مستبدا أو مستعبدا فتثور ثائرة التحرر والتحول نحو البطولة والتحدي!!
o عدم الوفاء بالمتطلبات الضرورية كالأعمال المنزلية أو توفير المستلزمات اللازمة أو القيام بالتربية أو التخلي والتملص من القيام بأدنى مسئولية تجاه المنزل أو الزوج أو الزوجة.
o الخروج المتكرر الغير مبرر مما يعني ترك فراغ عاطفي يجد فيه الآخر معاناة تقود لتباعد وبعد ربما يفضي لطلاق عاطفي أو مشاكل منفرة.
o الارتباط بعمل رتيب أو ورديات غير منتظمة أو عمل مختلط، تضطر أحدهما لترك المنزل لوقت طويل مما يحدث فارقا في العلاقة، وربما شكوكاً أو ظنوناً تسوء معها النوايا ليفقد طرفا الشراكة أصل الرحمة أو التقدير الذي هو أساس الاطمئنان والسكينة.
o الحملات المغرضة الموجهة لتفكيك عُرى الروابط الزوجية من قبل جهات ومنظمات وحكومات تسعى لتفتيت المجتمع المسلم وذلك بتجنيد النسويات التي هُيئت لهنَّ الإمكانات والظروف للإغراء واللعب على وتر العاطفة بداعي التحرر من سلطة الرجل وقيود الزوجية وأسر التقليدية والنزوع للتحرر والاستقلالية وهذا داء مستجد بدأ يستشري كسرطان يفتك بجسد المجتمع ويهدد كيانه؛ تخبيبا للزيجات وإفسادا للدين والأخلاق!!
o المشاهد الإباحية وتأثيراتها النفسية والأكلينيكية والاجتماعية التي تنشأ عن الإدمان عليها، وانعكاس ذلك على العلاقة الزواجية والأسرية العامة والنزوع للانطوائية والعالم الافتراضي التي قد تقود للانفصام أو التطور المرضي الخطير؛ خلقاً أو سلوكاً أو نزعة عدوانية شريرة!!
▪️ وبعد، سنورد طرفا من مقترحات لعلها تحد من تلك المخاطر المحتمله، أو تسهم ولو بصورة معقولة في خفض معدلات الطلاق، ومنها:
o أن تسبق موافقة الطرفين استعلام تفصيلي عن تاريخ الزوجين من حيث السيرة الشخصية؛ الإلتزام والسلوك والخلق وحسن التعامل والتفاعل، وحالتهما الصحية؛ الجسدية والنفسية.
o التكافؤ في النسب، والتقارب في العمر، والثقافة، والعادات كي لا تكون هنالك مفارقات تؤدي لسوء ظن أو اختلاف في وجهات النظر أو ضعف التواصل والتفاهم.
o الفحص الطبي الشامل لبعض الجوانب المهمة، الصحية والنفسية و للتأكد من عدم تعاطي المخدرات ونحوها.
o الزام الزوجين بإجراء اختبارات: التوافق الزواجي واختبار اضطراب الشخصية للكشف عما إذا كان هنالك بوادر اختلاف أو أختلال!
o الزام الزوجين بالالتحاق بدورات تأهيلية كمسوغ لإتمام عقد الزواج، تماما كالفحص الصحي، ليتشكل لدى المقبلين على الزواج وعي تام بما لهم وما عليهم، وما يتوقع أو قد يعترضهم خلال رحلة العمر الزواجي كي لا يظن أحدهم أنها علاقة ملائكية لا يشوبها كدر ولا ملل ولا خلل.
o أن تتضمن الدورات التدريبية الإلزامية لما قبل الزواج العديد من البرامج عن أنماط الشخصية والذكاءات المتعددة و تطوير الذات وأساليب علاج المشكلات والتواصل وإدارة الخلافات وغيرها مما يعزز العلاقات الجيدة.
o أن توجه برامج مكثفة من خلال القنوات الإعلامية كثقافة زواجية تتطرق لمهارات حياتية توطد العلاقة بين الطرفين بدلا من تلك البرامج أو المسلسلات التي تظهر المثالية المزيفة التي تخلق نوعا من التصور الخاطيء لدى الزوجين بأن الآخر يجب أن يكون مثاليا أو كما يريد لا كما هو عليه الحال.
o أن تضمن المناهج في المراحل النهائية من الثانوية أو الجامعية مهارات حياتية من خلال موضوعات تعرض لاحترام الآخر وتقبل الاختلاف و وأساليب المعالجات المتعددة.. ألخ.
o منع التدخلات السلبية من قبل أسرتي الطرفين والبعد عن أساليب التأليب أو الشحن ضد أحد الزوجين.. ويجب أن تسهم الأسرتان في دعم حياة مستقرة لابنيهما والمساعدة في حل ما يطرأ من خلافات بالهدوء وبحث الأسباب بعيدا عن الأنحياز أو التعصب لطرف على حساب الآخر، امتثالاً لقول المولى عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء : 35]
o أن يستبعد التفكير في الانفصال كحل أوحد؛ عند نشوب الخلافات أو تأجيج الصراعات، فلربما كان الحل في صبر محتكم لأمل مرتقب أو في تقدير لفضل سابق أو إمهال لمراجعة عقلانية بعد أن تهدأ ثورة الغضب.. فكم من ندم أصاب قوم جراء قرار متعجل!!!
o استحضار قول المولى عز وجل: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : 237] فذلك أحرى بأن يذكر أحدهم مناقب ومزايا وفضائل الآخر بدلا من تعداد نقائصه أو مساوئه والتي قد تنشأ عن عاطفة منحازة للذات فيما تحب أو تكره وليس للواقع، فمن كان محفوفا بالمحامد يصبح بعد كدر مذموما، وكأنما الرضا والبغض عينان متناقضتان، كما يصور ذلك الشافعي بقوله:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
o أن ينشأ في محاكم الاستئناف أو منفصلاً عنها مراكز استشارات نفسية وأسرية ليحال لها من يتقدم بطلب الطلاق أو الخلع لدراسة حيثيات الموضوع وتقرير الأسباب والعلاج المقترح.
o أن تعمد محكمة الأحوال الشخصية لإتخاذ إجراءات تسبق التصديق على الطلاق كشرط إلزامي، كالإحالة للجنة إصلاح ذات البين، منح فرصة لا تقل عن ثلاثة أشهر للمراجعة، وبحث سبل الإصلاح، التحويل لمركز استشارات أسرية لتصحيح المفاهيم الخاطئة أو لتقريب وجهات النظر أو لمحاولة إعادة المياه لمجاريها.
o لفت نظر الزوجين إلى المصير المنتظر للأطفال – إن وجد- من تشتت وضياع أو ما قد ينتابهم من أضرار نفسية جراء ذلك الانفصال الذي يربك استقرارهم ومستقبلهم، ليستبصرا مسئوليتهم والأمانة التي تقلدوها في مقابل الإنجاب وحق الأبناء في أن ينشأوا في كنف والدين، ليحضوا بالتربية والتعليم المنشود.
o أن تتظافر مؤسسات المجتمع المدني في حشد منظومة توعوية تثقيفية من جوانب شرعية وأخلاقية، وأخرى لبناء وثيقة تجرم من يقدم على إفساد البيت المسلم، لما ينطوي على ذلك من أضرار مستقبلية على الأجيال لها تأثير مباشر في تدمير الدول والمجتمعات، وإعادتها للجاهلية الأولى؛ تخلفاً وتفككا وتدني أخلاقي وكساد اقتصادي وتنموي، لأن صلاح الأسرة صلاح للدولة والأمة.
▪️ أخيراً:
يجب النظر لظاهرة الطلاق على أنها مسؤولية مجتمعية وليست حالات شخصية لما تنطوي عليه من آثار عامة مدمرة جراء تفكك الأسر وتأثير ذلك سلبا على الأجيال، لذا وجب إنشاء مراكز بحثية تخصصية في هذا الصدد لرصد ومراقبة واقتراح حلول للحد من تفاقم المشكلة واستفحالها واستمرائها، وبالتالي سن برامج وأنظمة وقوانين تحد أو تعالج المشكلة.