ليس هناك أي شك في أن العنف ظاهرة تخترق كل المجتمعات في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، ويتضح ذلك جليًا من خلال شيوعها كسلوك منحرف في مختلف البيئات، الفقيرة والغنية منهما على حد سواء. ومن أخطر أنواع هذا العنف الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، ولامس سقف الخطر الحقيقي ظاهرة العنف المدرسي، والتي أصبحت الصروح التعليمية تُعاني من تداعياتها بشكل فردي أو جماعي، حيث بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، وتسببت في جرائم قتل مأساوية، سواء إن كانت تلك الجرائم عمدًا أو كانت ناتجة عن مزاح عفوي لم يُقدر الطالب عواقبه ولا نواتجه المحزنة حتى إنها باتت من بين أبرز القضايا التي تعيق العمل التربوي والتعليمي والإداري في الوسط المدرسي.
ومما لا شك فيه أن العنف المدرسي يعد نوعًا من الانحطاط في القيم والأخلاق، يبدأ من عدم الحياء مرورًا بالتهديد ثم الضرب، وقد يصل إلى القتل، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى الانفلات الأخلاقي والانحراف السلوكي؛ خاصة بعد ظهور الألعاب الإلكترونية الحديثة التي تحث على العنف، وتعتبره أحد وسائل الانتصار التي يحقق من خلالها الممارس لتلك الألعاب الفوز فلا ينتقل من مرحلة إلى أخرى حتى يمارس شتى أنواع العنف، وكذلك فمن أسباب انتشار هذه الظاهرة غياب الأنشطة المدرسية ذات الطابع القيمي التي تبث من خلال مناشطها روح التعاون والأخوة الصادقة والتكاتف والتآزر بين الطلاب؛ خاصة إذا ما علمنا أن المدرسة تعدُّ من أهم ركائز المجتمع التي تحقق الأهداف التربوية من خلال بناء أجيال المستقبل، تعليميًا وتربويًا، وإعدادهم للانخراط في مؤسسات الدولة المختلفة.
وتفاعلًا مع حادثة القتل التي حدثت مؤخرًا وذهب ضحيتها أحد طلاب مدارس تعليم جدة، وفي خضم الواقع الأخلاقي القائم في مدارسنا، والذي يُظهر بشكل كبير مدى تخلخل وظيفة مدرسة اليوم وضعف مردودها التربوي، فإنه أصبح من المؤسف حقًا أن نجد مدارسنا ومؤسساتنا التربوية مرتعًا خصبًا للعنف بشتى صوره، ومؤشرًا حقيقيًا على وجود اضطراب وقصور في اللوائح والتنظيمات والقواعد الإدارية والسلوكية التي تشرع العلاقة بين المتعلمين والمعلمين وبين المدرسة والمنزل وبين المتعلمين أنفسهم مما جعل الرقعة تتسع على الراقع؛ نظرًا للفجوة الكبيرة بين الجهات المسؤولة عن إصدار تلك الأنظمة والميدان التعليمي، حيث أصبحنا لا نبحث عن الحلول إلا بعد أن تسجل مدارسنا كارثة مؤلمة كالتي حدثت في مدينة جدة؛ لتأتي بعد كل كارثة مرحلة تبادل الاتهامات، والتخلي عن المسؤوليات والبحث عن كبش فداء ليحمل اخطاء تلك الأنظمة العقيمة التي تعالج معظم لوائحها ظاهرة العنف من الخارج، تاركة جراحها تنزف من الداخل لأنها لم تجد من يخيط جراح ضحايا العنف المدرسي، الذي أخذ ينتشر ويعيث فسادًا في أروقة مدارس المدن والمحافظات، وكذلك دون أن نجد من يتصدى لهذه الآفة التي بدأت تنخر الكيان التعليمي رغم أن تعاليم ديننا الإسلامي السمح تحث على حُسن المعاملة والتحلي بالأخلاق الحميدة.
وختام القول..فإن أي محاولة لتشخيص ومعالجة ظاهرة العنف المدرسي لن تؤتي أُكلها إلا إذا تم دراسة تداعياتها وانعكاساتها من زوايا متعددة؛ خاصة في ظل عدم وجود أنظمة تأديبية فعالة في المدارس تحد من خطر هذه الظاهرة قبل حدوثها، ففي كثير من الأحيان لا تتنبه الجهات المشرعة لأنظمة التعليم إلى وجود العنف إلا بعد وقوعه فتصدر بعد ذلك قرارات الشجب والاستنكار التي تكون مجرد تحصيل حاصل لا فائدة منها متناسين أن الإهمال والتراخي والتساهل مع الطلاب ذوي الاتجاهات العدوانية، وتطبيق النظريات السلوكية الهشة التي تقوم على التنظير الذي لا يمت إلى الواقع بأي صلة سيكون له أبلغ الأثر في زيادة حدة العنف المدرسي وانحراف سلوك الطلاب؛ لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.
وخزة قلم:
المفتاح السحري لكبح جماح العنف في مدارسنا يكمن في إصدار اللوائح التشريعية القوية، والعمل على تطبيقها بكل حزم وصرامة.