▪️لم تكن تلك الخصوصية التي مُنحت لأمة محمد ﷺ إلا لعظم قدرها عند الله بما حباها من مقومات، وبما أصفاها من منح، وخصها من قيم ومعتقدات، وأيضا مواسم، وأعمال، وتكاليف، لم تكن لغيرهم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ}
▪️ومما هدانا الله له (يوم الجمعة) فيما أضل عنه غيرنا ممن كان قبلنا من الأمم، ذلك لأنه خير يوم طلعت عليه الشمس، كما جاء في حديثُ أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال: (نَحنُ الآخِرونَ الأوَّلون السَّابِقون يومَ القِيامةِ، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ مِن قَبلِنا، ثمَّ هذا يومُهم الذي فَرَضَ اللهُ عليهم، فاخْتَلفوا فيه، فهَدَانا اللهُ له، والنَّاسُ لنا فيه تَبَعٌ؛ اليهودُ غدًا، والنَّصارَى بعدَ غدٍ )
▪️وهاهو شهر (رمضان المبارك) الذي أختصنا الله بصيامه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ }، إذ تفتح فيه أبواب الجنّة وتضاعف فيه الأجور، كموسم للطاعات وفرصة للقربات، لينهل المسلمون فيه من معين الرحمات؛ كمكاسب تضاف لصحائف الأعمال؛ قراءةً للقرآن، وصلوات وتهاليل وذكر وشكر لله المنعم المتفضل.. إنه بالفعل موسم النفحات، ومرفأ للباحثين عن ربوةٍ ذات قرار ومعين!!
▪️وكما أنه شهر الصيام؛ فإنه شهر الآداب التي يجب أن يتحلى بها المسلم وإلا لأضحى صومه مجرد شكلي؛ كعقاب وحرمان!!
لحديث:(رُبَّ صائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ الجوعُ والعطَشُ، وربَّ قائمٍ حظُّهُ من قيامِهِ السَّهرُ).
أي أنَّ الصيام ليس الامتناع عن المطعم والمشرب فحسب بل تأطير النفس على الالتزام بكل الآداب الشرعية التي مؤداها الحفظ والصون عن اللغو والأثم، كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)
▪️وهو أيضا يدرب المسلم على ضبط النفس والتحكم بالتصرفات في المواقف المثيرة، ليكون فارقا في حياته؛ استشعارا لعظمة الصوم، {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج : 32]
وهذا ما أكده الرسول ﷺ ليعمق المعنى الحقيقي للصوم في تربية النفس وتهذيب السلوك والاحتكام لمنطق العقل والحكمة، لينأ بنفسه عن السب والشتم، واللوم ناهيك عن التطاول والتعدي على الآخر، لحديث: (إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)
▪️ولأن الله أراد لنا الشرف والتمكين أيضاً، فقد أنزل لنا خير الكتب وأعظمها وأجلها كي يبقى ذكرنا حيّاً ما بقيت السموات والأرض، فلا يتهاوى ولا يندثر كما هو حال أسلافنا {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف : 44]
كما تكفل بحفظه من النسيان وصانه من التحريف والتظليل؛ بزيادة أو نقصان {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9]
▪️ولأنه دستورنا وأصل تشريعنا ومصدر نظام حياتنا فإن حفظه كفيل بحفظ ديننا، وشرف لنا ببقائه نورا يضيء حياتنا؛ تسعد به نفوسنا، وتطمئن به قلوبنا، كما يمدنا بالهداية والرشد.. يغذينا بالأمل بتلك البشارات المتلاحقة وتلك النفحات المباركة؛ رضوان الله ونعيمه؛ إذا ما تقيدنا بأوامره وأمتثلنا نواهيه!
▪️ومن نفحات هذا الشهر الكريم أن المؤمن يجازى بما عمل من الصالحات بالأجور المضاعفة؛ جزاءً موفورا
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء : 94]
ذلك بأن الجزاء رباني مفتوح غير محدد الأجر، كما يرويه النبي ﷺ عن ربه، قال- عز وجل- : « كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به »
فأيُّ جزاء سيكون من لدن حليم كريم!!
▪️ومن كرامات هذا الشهر أيضا( ليلة القدر) قال تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
فأيُّ ليلة تعدل ثلاث وثمانون سنة وأربعة شهور بل هي خير وأعظم أجرا!! .. أليس تلك منّة من الله وخصوصية تفردنا بها عمن سبقنا، لتعوضنا عن قصر أعمارنا الزمنية؛مقارنة بالأمم السالفة لنفوقهم بتلك الهبات الربانية والمزايا الكريمة!!
▪️فيكون الثواب إزاء ذلك على قدر العزم بل بما تضمر القلوب من حسن النوايا وطيب الحنايا:«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»
▪️إنه شهر الخير، شهر الغفران وتكفير الذنوب، شهر البذل والعطاء، شهر الجود والكرم، لما روي عنه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم (أنَّه كان أجودَ الناسِ بالخيرِ ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ).
▪️ولأنه شهر البذل والإحسان، ففيه توجب (الزكاة)، فكما تزكى الأموال تزكى الأنفس من التقصير واللغو والرفث؛ إذ تؤخذ من مال الأغنياء والمؤسرين ليتحقق من خلالها الطهر والزكاة والأجر العظيم، كما تحلّ البركة والنماء في الأموال والأولاد تخرج طيبة بها الأنفس؛ مواساة لأصحاب الحاجات، وجبرا لمن نابه العوز والفقر ليلحق به الفرح؛ ابتهاجا وسرورا، لتتشارك الأُسر تلك النعم والآلاء الربانية، وتلك النفقات التي أوجبها الله؛ أداء للواجب الشرعي وشكرا لله المنعم المتفضل {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبإ : 39]
(بالشكر تدوم النعم)
أخيرا:
▪️شهر رمضان منحة ربانية وهبة إلهية، به يتحقق الفرح كما ورد في الحديث:(للصائم فرحتان : فرحة حين يفطر ، وفرحة حين يلقى ربه).
▪️إنه حقاً شهر التهاني والأفراح، إذ تتبادل التهاني بقدومه كما تتبادل التهاني بصومه وتمامه.. وحق للمسلم الفرح، إذ بحلول تهلَّ البشارات كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ) .. وكيف لنا ألاّ نفرح وقد خصص الله للصائم باباً لا يدخل منه سواه، لحديث النبي ﷺ ” إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ”.
▪️وما إن تغيب شمس آخر يوم من أيامه(أيامٍ معدودات) حتى تأتي المكافأة الأجمل(عيد الفطر المبارك)، إذ يفرح فيه المسلمون: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .
أخيرا:
لن نستطيع حصر شمائل هذا الشهر بل ولن نحط بحكمه علماً، فهو موسم عبادة وتقرب، وفرصة خير ونفع، وصحة وأمان لحديث(صوموا تصحوا)!!
بارك الله لنا في شهرنا وختم لنا فيه بالغفران والعتق من النيران.