من المخطوطات المهمة التى حكى فيها مؤلفها قصة حجه إلى الأراضي المقدسة بمكة المكرمة وزيارته المدينة المنورة، يصف وصفًا دقيقًا لهذه الرحلة والمشاعر الجياشة والروحانيات العظيمة في رحلة الحج المقدسة، ويصف طريق الحج من قرية أم طرفي بالسودان حتى وصوله مكة المكرمة ثم زيارته لمدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ويصف أهم الآثار والأماكن التى زارها في رحلته بداية من (أم طريفي ثم سواكن ثم بورسودان ثم جدة ثم مكة المكرمة ثم المدينة المنورة)، إنه الشيخ عبدالمحمود الحفيان صاحب مخطوطة (الدرة الثمينة في أخبار الرحلة إلى مكة والمدينة). ولد الشيخ عبدالمحمود بن الشيخ نور الدائم الحفيان الملقب بالأستاذ في قرية أم طريفي بالسودان في عام 1260هـ، وأتم حفظ القرآن على يد أخوه القرشي، وهو في الحادية عشرة من عمره بعد وفاة والده، وتعلم التصوف على يد الشيخ أحمد الطيب. يقول في مخطوطته: إنه خرج لحج بيت الله الحرام في يوم الخميس الرابع من ذي القعدة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف 1324 هـ، ويحكى أنه اصطحبه في هذه الرحلة عدد كبير من الحجاج وودعهم أهل القرية (زفة الحجيج)، ويحكي ترحيب وكرم القرى التي مرت بها قافلته مثل قرية الولى وقرية ولد بترو وولد الماجدي، ويذكر مقابلته الحاكم العام للخرطوم ونجت والزبير باشا، وقال: إنه سمح لنا بالسفر لحج بيت الله الحرام وزيارة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. ثم تحرك من الخرطوم إلى سواكن، ويقول: إنه نزل في سواكن عند الرجل الفاضل الكريم الشيخ محمد الطاهر بن محمد كشنه، ووصف الشيخ المحمود مدينة سواكن؛ فهي مدينة واسعة وفيها التجار ويغلب على أهلها حب الدنيا والتلهي وبها ثلاثة جوامع تقام فيها الجمعة جامع العارف بالله الشيخ محمد المجذوب وجامع السادة المراغنة ومسجد الشناوى بيك. ثم يصف الشيخ الحفيان رحلته في البحر الأحمر من سواكن إلى بوتسودان التي كانت تسمى الشيخ برغوث كما يقول متجهًا منها إلى جدة، ويقول بعد ركوبنا الوابور استغرقت الرحلة في البحر ثماني عشرة ساعة، وقال سارت بنا السفينة إلى الكرنتينة محل على جزيرة بالبحر الأحمر لتبخير الحجاج كانت تقوم بذلك عساكر من رجال الدولة العثمانية.
ووصل الشيخ الحفيان ووفد من الحجاج مدينة جدة محرمين، ووصلوا لوقف السيد أحمد بن إدريس الذى أوقفه لله في جدة. ويصف الحفيان جدة بالمدينة المزدحمة وبها أصناف متعددة وأجناس مختلفة لا يعلم مداهم إلا الله تعالى والغالب عليهم البيع والشراء، وفيها خمسة جوامع مسجد الشافعى والحنفي والمعمار وعكاشة ومسجد الباشا، وفيها من الزوايا ما يزيد على عشرين زاوية منها المنسوب لسيدى الشيخ مصطفي البكرى، ومنها ما هو منسوب للشيخ محمد السمان والشاذلي والسنوسي وابن إدريس الفاسي. وعن شوارع جدة يقول فيها أربع حارات حارة اليمن وحارة البحر وحارة الشام وحارة المظلوم، ويقول أحرمنا بالحج في البحر بمحاذاة الجحفة ثم يصف الطريق من جدة لمكة المكرمة بأنه كثير الماء والطعام بجهود العساكر الموجودة هناك (جنود الدولة العثمانية)؛ حيث كانت قد توفرت بها الحانات التى بها القهوة والطعام والبعض يبيع والآخر يبتغي الأجر والثواب من الله، ويقول وصلنا مكة المكرمة، وكان في استقبالنا حمام الحرم وأعجب به الشيخ الحفيان وقال فيه شعرًا:
أيا حمام الحرم المشهور == قد جئنا بكامل السرور
وما أتيت إلا بأمور == مصلحة للنفس والضمير
ويقول: اغتسلنا وتوجهنا للدخول إلى البيت الحرام (الكعبة المشرفة) من باب شيبة المعروف الآن بباب السلام، وكان يعرف من قبل بباب عبد شمس وعبد مناف، ويستحضر الخشوع في قلبه والخضوع في جوارحه عند رؤيته الكعبة المشرفة للمرة الأولى؛ لأن رؤية البيت الحرام تذكر وتشوق إلى رب البيت، ويقول: ولا يركع الحاج تحية المسجد بل تحية البيت الحرام الطواف، ويقول: حين وقع بصري على هذا البيت العظيم دخلت هيبته في قلبي وسري حبه في كلي ولبي. ثم يحكي قصة أدائه مناسك الحج الخروج لمنى يوم الثامن من ذي الحجة للمبيت بها ثم التوجه لعرفه يوم التاسع من ذي الحجة ثم المبيت بمزدلفة ثم رمى الجمرات والذبح والحلق أو التقصير في يوم العاشر (يوم العيد) ثم المبيت بمنى ثلاث ليال أو ليلتين لمن تعجل، ويحكى أنه أتى بعمرة بعد الحج وأحرم من التنعيم ثم طوافه الوداع، وخرج من باب بني سهم (باب العمرة) ثم يفصل قصة زيارته لمدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول خرجنا من جدة إلى رابغ ومنها للمدينة المنورة، ويقول توقف بنا السنبوك في البحر لانقطاع الرياح فتضرعنا لله بالدعاء.
وقال:
ياسيدي يارسول الله قد وقفت == عن المسير بنا السنبوك ففى اللجج
غث بريح سريع كى نزوركم == فى روضة نور أضواءها من السرج
يقول: بعد خروجنا من البحر جاءت الجمال وحملتنا إلى مدن ذلك البلد ثم تحركت بهم الجمال نحو المدينة المنورة في السادس عشر من محرم 1325هـ، يقول: دخلنا المدينة من الطريق الشرقي واستقبلنا الشيخ محمد حسن السمان وأنزلهم في زاوية السمان (بيت أبو بكر الصديق). ثم يحكي قصة دخوله المسجد النبوي الشريف (بعد أن توضأت صليت ركعتي تحية المسجد في محراب رسول -صلى الله عليه وسلم- في الروضة الشريفة) ويقول دعوت: (إن هذا حرم رسولك -صلى الله عليه وسلم- الذى حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة كما في مكة البلد الحرام فحرمني على النار، أمني من عذابك يوم تبعث عبادك، وارزقني حسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات ثم سلمت على الحبيب ثم أبي بكر وعمر، وكانت العساكر السلطانية قد تولت تأميننا). ثم بدأت رحلة العودة من المدينة إلى سواكن يحكي قصة وداع أهل المدينة لهم ومنهم السيد أحمد السماني، وبدأت رحلة العودة من المدينة في الأحد التاسع من صفر يقول: سلكنا طريق الفرع، وكنا في أمن وراحة حتى وصلنا رابغ وصحبنا العديد من العرب الذين تميزوا بصدق النية وحسن الأدب حتى وصولهم لجدة ثم سواكن؛ حيث تم إعفاؤه من الجمارك ثم نزل شندي، وأكرم الناس وفادته وأهدوه المال والمتاع إلى أن وصل ديار نشأته في ود رملي، ومنها إلى أم مرحى كما قابل في الخرطوم الزبير باشا مرة ثانية وقابلته زفة أهل القرى والتلاميذ، وتهنئته بالحج المبرور والذنب المغفور.
هذه الرحلة التى قام بها الشيخ المحمود الحفيان من أشهر رحلات العلماء لبلاد الحجاز فيها فوائد كثيرة في علم فقه الحج وفي الآثار لوصفه المناطق والبلاد التى زارها. كذلك التقى بمسلمين من جميع بقاع الأرض آنذاك وحاورهم، وكتب خلاصة رحلة في مخطوطته (الدرة الثمينة في أخبار الرحلة إلى مكة والمدينة) استغرقت الرحلة ما يقرب الأربعة أشهر، وكانت منذ أكثر من مائة عام شارحة ما كانت عليه بلاد الحجاز مكة المكرمة والمدينة المنورة موضحًا تأمين الدولة العثمانية لطرق الحج البحري والبري وتأمين الحرمين الشريفين.
جهد مبارك لصحيفة مكة الالكترونية حف الله القائمين عليها وحف الله المملكة قيادا وشعبا