المقالاتعام

التحولات التركية والعالم العربي

تشهد السياسة التركية تجاه العالم العربي تحولات في الفترة الأخيرة، تبدو أقرب إلى الظرفية السياسية، إذ إنها تأخذ شكل محاولة العودة إلى نظرية صفر مشكلات، التي طرحها رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، قبل أن ينشق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويؤسس حزبًا جديدًا باسم “حزب المستقبل”. الرغبة التركية في الانفتاح على الدول العربية، تأتي بعد نحو عقد من ركوب حكومة حزب العدالة والتنمية موجة ما سمي (بثورات الربيع العربي) وفق سياسة اعتمدت عوامل وترت علاقات تركيا مع الخارج، ولعل من أهم هذه العوامل: الأول- دعم حكومة حزب العدالة والتنمية لجماعات الإسلام السياسي، وتحديدًا جماعات الإخوان المسلمين، وجعل هذه الجماعات محددًا في العلاقات التركية مع دول العالم العربي، بدلًا من العلاقات القائمة على المصالح والقانون الدولي، وقد أثر هذا التوجه سلبًا على علاقات تركيا مع الدول العربية، وفي المحصلة تضرر منها الطرفان العربي والتركي.
الثاني- التدخل العسكري التركي في العديد من الدول العربية، لا سيما سورية وليبيا والعراق.. وهو ما أدى إلى الاستحضار السلبي للعلاقات التركية – العربية، لا سيما في ظل الحديث عن العثمانية الجديدة، ومحاولة إحياء هذا المشروع بما يؤدي إلى هيمنة إقليمية تركية على أساس النفوذ. التحولات التي تشهدها السياسة التركية، لا سيما بعد زيارة أردوغان إلى السعودية، ومن قبل إلى الإمارات، تؤكد أولًا وصول القيادة التركية إلى ما يشبه قناعة بعقم خياراتها السياسة السابقة، والإحساس بأن جماعات الإخوان تحولت إلى عبء سياسي عليها، وثانيًا، عُمق الإحساس التركي بخسارة، واحتمال تعرضها لخسارة أشد، في ظل التراجع الكبير في قيمة ليرتها أمام الدولار، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والمديونية، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية والشعبية التي قد تؤثر سلبًا على مصير أردوغان وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها صيف العام المقبل. من دون شك، التحولات التركية هذه، قوبلت بترحيب من الدول العربية، وإن كان بعضها ينظر إليها بحذر شديد؛ خاصة أن الحسابات التركية تبدو أقرب إلى حسابات الربح والخسارة، وليس نتيجة قناعة سياسة أو خيار استراتيجي، وعليه فإن السؤال الذي يشغل العالم العربي هنا هو، هل التحول التركي حقيقي واستراتيجي أم إنه تكتيكي نابع من ما وصلت إليها السياسة التركية من تحديات وصعوبات في كل الاتجاهات؟ في السياسة، لا يـنبغي إغلاق الأبواب، وعليه تعاملت الدول العربية بإيجابية مع التحولات التركية هذه، انطلاقًا من مصالح مشتركة، ومحددات لها علاقة بالجوار الجغرافي والهوية الثقافية المشتركة، وعوامل أخرى لها علاقة بالاصطفافات الإقليمية والدولية، لا سيما بعد وصول “جو بايدن” إلى سدة البيت الأبيض، وإصراره على التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران التي تواصل سياسة توسيع نفوذها في العديد من الدول العربية في إطار مشروعها القائم على التوسع والهيمنة، وانطلاقًا من هذه العوامل والحسابات ذهبت الدول العربية إلى ما يمكن قوله بمنتصف الطريق في ملاقاة الرغبة التركية تطلعًا إلى الأمن والاستقرار والمصالح المشتركة، وهو ما يفترض الدخول في عملية بناء ثقة، وخطوات عملية تفضي إلى تحقيق الأهداف المشتركة، وهذا ما يتطلب ملامسة التحولات التركية للبُعد الأيديولوجي الذي كان سببًا في توتر العلاقات التركية – العربية طوال العقد الماضي، إذ إن هذا الأمر سيشكل مقياسًا حقيقيًا ليس لبناء المصالح المشتركة فقط، وإنما لتحديد الخيارات المستقبلية بين دول المنطقة، إذ لا يعقل الاعتماد على البُعد الأيديولوجي في بناء علاقات مستدامة ومستقرة مع العالم العربي، ومن دون ذلك، فإن التحولات التركية تبقى ظرفية، وتدخل في إطار التكتيك الذي يمكن تفسيره بعاملين أساسيين.
الأول: صعوبة الأوضاع الاقتصادية الداخلية التركية.
والثاني: حقيقة وصول السياسات السابقة لحزب العدالة والتنمية إلى طريق مسدود، فيما يبقى المطلوب إحداث التحول الحقيقي وفق رؤية استراتيجية تنبع من الداخل، وليس التكتيك النابع من حسابات الربح والخسارة مع بقاء الاتكاء على البُعد الأيديولوجي السابق، مع التأكيد على أن كل ما سبق يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لطي صفحة الماضي أولًا، وبناء شراكات تليق بالمستقبل ثانيًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button