لا يكاد يمر يوما دون أن اتلقى اتصالا من قريب أو صديق يسألني عن شقة او بيت للإيجار لأن منزله الحالي تم التأشير عليه “للإخلاء” ضمن مشروع تطوير العشوائيات. أحيلهم للمكاتب العقارية التي أعرفها، واتابع احيانا لأطمئن عليهم. وغالبا تكون الإجابة أنهم وجدوا منزلا مناسبا، بقيمة إيجارية تفوق في معظم الحالات القيمة السابقة، وبمساحة أقل، ولكن في حي أفضل وخدمات أرقى.
الحصول على الدعم
وبالنسبة للملاك، فهذا يعني دفع ايجارا لأول مرة، وبهذه الحالة انصحهم بمراجعة لجنة العشوائيات لتحمل قيمة الإيجار. وبالنسبة للحاصلين على الضمان الاجتماعي، أذكرهم بمراجعة مكاتب الشئون الاجتماعية للحصول على الدعم المالي. ولغيرهم من أصحاب الدخول المنخفضة، مواطنين ومقيمين، فهناك جمعيات خيرية تعنى بحالاتهم.
حنين وتأقلم
بعضهم لا زال يشده الحنين الى الماضي، وهذا طبيعي، فمن الصعب على من عاش حياته في بيئة اجتماعية معينة، وسط جيران وأصدقاء ورفاق طريق، أن يتعود بسرعة على بيئة جديدة، واناس جدد. والكبار في هذه الحالة هم الأكثر تعلقا من الأصغر سنا، وأقل تجربة، وأكثر تطلعا لمستوى سكني أفضل وتجربة أجمل. وبكل الأحوال، فالتغيير سنة الحياة، وسرعان ما يتأقلم الانسان مع بيئته الجديدة وظروفه المستجدة.
استكمال المشروع
وبعد توقف المشروع خلال شهر رمضان، عادت الآليات لإستكمال المرحلة التالية، والتي تشمل أحياء مكتظة في منطقة الجامعة واحياء مشرفة والعزيزية والرحاب وبني مالك والجزء الشمالي العشوائي من حي الورود. كما بدأ توزيع الانذارات في أحياء اخرى، أقل كثافة وأكثر بعدا عن وسط المدينة، كالرحاب والروابي، وينتظر أن يتم التوزيع لأحياء الربوة والمنتزهات وقويزة والعدل والفضل وكيلو 14 الشمالي الشهر القادم. وكثير من سكان هذه المناطق لم ينتظر المهلة، واستبقها بالرحيل الى مناطق أخرى من المدينة. وبالتالي، لا يتوقع المخططون حركة نقل مكثفة، كما حدث بعد بداية الهدد في وسط المدينة وجنوبها. واستثنيت بعض الأحياء من الهدم كحي الرويس والحرازات وعشوائيات ذهبان واستبدل ذلك بمشاريع تنظيم يجري العمل عليها حاليا.
غلاء واستيعاب
وحسب معلومات رئيس طائفة العقار بمحافظة جده، مشرف الغامدي، أن أحياء جنوب جده التي لم تشملها الإزالة يصعب ايجاد مساكن جديدة فيها لأنها أقل عددا ومساحة، ولأن سكان الأحياء الجنوبية المزالة فضلوا الانتقال الى الأحياء الأقرب، والأكثر تشابها مع بيئتهم المجتمعية، والأقرب الى مدارسهم واعمالهم. ونفى ما اشيع أن البعض اضطر للسكنى في مكة المكرمة، مع التنقل اليومي لأعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم في جده. فحتى لو لم تتوافر مساكنا مناسبة في الجنوب، تبقى أحياء شرق جده، كحي الرغامة والتيسير والحمدانية، وحتى أم السلم وبحرة والحرازات أقرب، وفيها وحدات متاحة وبأسعار لا تختلف عنها في العاصمة المقدسة. ومن يختار الانتقال اليها رغم توافر المساكن بجده، قد تكون لديه اسباب أخرى، اجتماعية مثلا، او عملية.
ارتفاع محدود
وفي المقابل، فإن أحياء شمال وغرب المدينة، حتى جنوب وشمال أبحر، تتوافر فيها وحدات سكنية أكثر، وبإمكانها استيعاب سكان المناطق في الأحياء الأثنى عشر على قائمة الإزالة. وبطبيعة الحال، فإيجارات تلك المناطق قد تكون أعلى، لحداثتها وحسن تنظيمها، وقربها من البحر والمطار وجودة الخدمات العامة ومراكز التسوق والترفيه فيها. وأستدرك الغامدي، بإن الارتفاع لا يتجوز عادة العشرين بالمئة، وهي نفس النسبة التي انخفضت في سنوات الركود الماضية. أي أن الاسعار تعود الى ماكانت عليه قبل ثلاث الى خمس سنوات.
الإسكان التنموي
يتوقع الخبراء أن الاقبال الحالي على الأستئجار سينخفض مع بدء صرف التعويضات، وتسليم وحدات الإسكان التنموي. فاصحاب الاملاك يستئجرون حاليا، على حساب الدولة، مؤقتا، ويبحثون في الوقت نفسه عن عقارات تمليك، يشترونها بمجرد استلام التعويضات. ومشروع الاسكان التنموي الذي يضم آلاف الوحدات السكنية، يوشك على استكمال الخدمات العامة، من كهرباء وماء وطرق، بعد متابعة حثيثة من إمارة منطقة مكة المكرمة، والأمانة، والجهات المعنية، كالإسكان والكهرباء والمياه.
الموجة القادمة
وبانتقال الملاك والمستحقين الى وحداتهم الجديدة، ستخلو مساكنهم الحالية وتصبح متاحة للموجة المتوقعة بعد إزالة الأحياء المتبقية على قائمة الإزالة، حتى نهاية العام الميلادي الحالي. ومع حدوث ذلك، واستكمال مشاريع البناء الفردية والتطويرية التي نشطت مؤخرا، يتوقع المخططون والعقاريون أن يتحقق التوازن المطلوب بين العرض والطلب، وبالتالي تعود الأسعار الى الإنخفاض، ربما الى ماقبل مشروع تطوير العشوائيات.
قفزة عقارية
أما في السنوات القادمة، ومع بدء التطوير للمناطق المزالة، واكتمال مشاريع وسط جده، وقلب جده، والمناطق الجديدة، فالمتوقع حدوث نقلة عقارية وحضارية كاملة وشاملة، تتيح لسكان المدينة وزوارها خيارات عالية الجودة والخدمات، متنوعة الاسعار والمزايا، من شأنها نقل ميزان الجاذبية الى الوسط والجنوب، وتخفيف الضغط على المناطق الحالية، وبالتالي خفض قيمتها وايجاراتها.
وهكذا هي السوق العقارية، تجاذب وتبدل، تنوع وتجدد. فأحياء كانت يوما هي الأرقى والأغلى كالكندرة والشرفية والرويس، خسرت مواقعها المتقدمة لأحياء في شمال وغرب المدينة، كالحمراء والشاطئ وأبحر.
نقلة حضارية
ومع التطوير القادم والهائل للمدينة، والذي سيشمل تكامل المناطق، وترابطها بشبكة خدمات غير مسبوقة، مثل القطارات الخفيفة والميترو والنقل الترددي، ومدينة المطار الحرة، وأنسنة الأحياء، وتزويدها بخدمات تعزز من جودة الحياة، وتوفر بيئة أكثر صحة ورفاهية، سيعاد خلط الأوراق، ويتغير ميزان الجاذبية وخريطة الأسعار، بما يتناسب والمرحلة الجديدة.
نحن إذن امام مستقبل ستتشكل معالمه خلال الثمان السنوات القادمة، حتى اكتمال مشروع الرؤية في 2030، في عروس البحر، جده، كما في اثني عشر مدينة تشهد اعادة تصميمها، وأخرى جديدة في منطقة نيوم وجنوب الرياض ومدنًا صناعية واقتصادية. وفي مخاض هذا التحول التاريخي، لابد من تداعيات ولا مفر من معاناة، يتحملها بعضنا أكثر من بعض. ومن حقهم علينا التعاطف وتقديم العون والمساعدة. كما من حقنا التفاؤل بنقلة حضارية مبهرة نشهدها مع ابنائنا ونورثها للأجيال القادمة بإذن الله.
@kbatarfi