عندما كنت في مراحل الصباء أكرف من ساعات الفجر الأولى إلى عتمة الليل تحت كنف والدي -رحمه الله- رحمة واسعة. بحكم أن بيتنا كبير وبلادنا كثيرة، كان لدينا الكثير من بهيمة الأنعام؛ فالغنم رغم كثرتها إلا أنها تسرح إلى الأودية والجبال، وترعى بفمها ما طاب لها والجود من المَجود..
أما تلك التي تقدم لها الوجبات في مذاودها فهي البقر والمشدود، كان غالبًا في بيتنا بقرتان تتناوبان على الدفع (الحمل) والولادة، وتمداننا بالحليب والحقينة والسمن طوال العام بالاقتصاد في بعض المواد، وأما البعض الآخر فيتم إعطاؤه للجيران حسب طلبهم. البقرتان والعجلان يستمتعان بالإقامة في سفل خمس نجوَم وحياة رفاهية، كنت أحسدهما عليها حيث يقدم لهما ولعجليهما أطيب العلف من البرسيم الطازج إلى الوجيم الطري، إلى العصيف الغض وللعلم كنت أشاركهما هذه المواد أحيانًا فأكل منها، ويقدم لهما المواص (الدشيشة) الدافئ المعد بعناية فائقة من شعير البلاد.
بينما الثوران القابعان تحت الرعش في صقيع البرد أو حر الهجير يقيمان خارج السفل ذي الخمس نجوم، وينظران بالعين الشحمية إلى تلك الوجبات الفاخرة، وهي تذهب إلى داخل السفل لمن يعيش هناك مرفهًا.
وهما أي الثورين تقدم لهما الرفة الناشفة (التبن) والقنا الجاف الذي يشقق لحيهما حتي تكادان تدميان..
وللعلم هذان المظلومان هما من عسمت رقابهما لحرث الأرض، وجر الماء ودياس المحصول الذي يذهب أفضله إلى الداخل. ولا يهون المشدود الذي هو من يجلب على ظهره كل تلك المواد ولا يناله منها إلا أسوأها..
كنت أجل والدي-رحمه الله- رحمة واسعة، واثق في عدالته ولكنه كان أيضًا يحترم تفكيري، ويهبني وهبة الله الجنة، مساحة من حرية النقاش محاطة بخطوط حمراء لا أستطيع أن أتجاوزها.
فحدث ذات جلسة أن سألته عن ذلك الظلم البواح الذي نمارسه في حق الثورين والمشدود. فاستورد علمي بأدب جم وإنصات جميل. وعندما قلت: علمي وسلامتك، قال: سلمت وعلي النبي السلام.
يا ولدي سأحاول أختصر لك الإجابة عشان تستوعب قلت: هات فكلي أذان صاغية..
قال أولًا: فهذا ما وجدنا عليه آباؤنا، ونحن علي نهجهم سائرن. ونحن معشر بني يعرب نخاف من التغيير؛ فتجدنا نتجمد في مسيرتنا علي من كان قبلنا.. حتي ولو كان ظلمًا بل إن أكثر الأمم حاجوا الأنبياء والرسل بهذا الجمود، وقالوا هذا ما وجدنا عليه آباؤنا..
ثانيًا ما دام الثوران والمشدود راضيين، ويؤديان واجبهما بكل إخلاص وتفان مقابل ما يقدم لهم أنت (يا حويه. اسم الدلع) ايش اللي (حرق رزك)؟؟
رحمه الله كان ديمقراطي..
ثالثًا.. وأخيرًا، اللي في الداخل نحن لا نعطيهم إلا لنأخذ منهم أعز ما يملكون..
فالبقرتان نحلبهما صباح ومساء ونشرب ونأكل ما تنتجان، وأما الحسيلان (العجلان) فإننا نتظر أقرب مناسبة أما ضيفه ولا زواج ولا أضحى، ولا نبيعهما شركه للجماعة، فنزهق روحيهما ونأكل لحمهما، ونفترش جلديهما وهذه تضحية منهما تستحق ان نكرمهما حولين كاملين.. فهمت.
نعم يا والدي فهمت..يحيا العدل…
علمي وسلامتكم..
ابدعت ابا محمد في الوصف وجيل الطبيين الذي ينكره البعض الان ولكن اغبطك ع مساحة الحريه اللي كنت تاخذها من والدك رحمه الله واطال في عمرك ع الطاعه ..ردي وسلامتك
مقال جميل من ذكريات الماضي
ذكرتنا بالدشيشة ياعبدالرزاق
والوجيم لم اتذكرة ولكن سألت من لدية الذكرى😂
ولكن على ما اذكر ان العسم يقال لكثرت وقوف الارجل وليس لكثرت استخدام الرقاب في الحرث وجر الماء والدياس والتي ربما يقال لها ادميت رقابهما من كثرت الاستخدام
ونحن على آثارهم مقتدون
صح لسانك يابو محمد على هذه الإطلالة الشيقة لي طلب واحد
أرجوك أن ترد على المسمى الدكتور اللي ذم الأجداد والآباء وأنكر فضلهم في تربية الأجيال القديمة ووصفهم بأشياء لايتسع ذكرها وفي نظره سلبية جدا وتمنى أن لاتعود تلك المسارات التي كانوا عليها.