لا يكاد يمرُّ يوم دون أن ترجع بنا الذاكرة إلى زمن جيل الطيبين لنسترجع كل ما نعرفه عن ذلك الزمن الجميل من ذكريات وحنين؛ خاصة عندما نشاهد بعض الصور أو نسمع بعض القصص والحكايات عن إنسانية أهل ذلك الجيل، وطيبتهم وترابطهم وتكاتفهم، ومع أننا لا نعلم ولا نعرف على وجه التحديد من أول من أطلق مصطلح “جيل الطيبين”، إلا أننا نكاد نجزم أنه مصطلح مفهومه يُشير إلى عقود زمنية ماضية كان الناس فيها أكثر قُربًا من بعضهم البعض، وأيسر معيشة، وأقل تكلفًا في شؤون حياتهم، حتى أضحت هذه العبارة أيقونة – ساحرة – تصف حياة الآباء والأجداد بكل ما فيها من تفاصيل.
ومما استدعاني للكتابة حول هذا الموضوع ذلك المقطع الذي انتشر خلال اليومين الماضيين لأحد اللقاءات الحوارية مع أحد رواد علم النفس الحديث الذي عثر به لسانه قبل أن ينزع فتيل تلك القنبلة المدوية التي أطلقها وبدأ يرددها خلال ذلك اللقاء بفلسفة غلبت عليها نبرة التعالي والتأفف من جيل الآباء والأجداد تلك القنبلة التي نسفت كل شهاداته ودرجاته العلمية قبل أن تنسف ماضي الطيبين وأصالتهم؛ حيث خاطبهم قائلًا: “الله لا يعيد جيلنا ولا يعيد جيل الطيبين، الذين كانوا يدوسون على عيالهم، ومقفلين عليهم، كُنا في الحارة التي نعيش فيها عبارة عن مسجد ومزرعة وبيت الجيران، كانوا يعيشون السلطوية على أبنائهم”. في اتهام باطل نسي أو تناسى معه هذا الفيلسوف الأفلاطوني أن جيل الطيبين ارتبطت بهم ذكريات جميلة، تُذكِّر إنسان هذا الزمان بأهله وذويه، وبيته الصغير وسط إخوته ووالديه، وعائلته وقرابته وجيرانه بل أنها تذكرنا بجيل كان لرجاله الدور البارز في بناء لبنات هذا الوطن المعطاء بما حملوه في دواخلهم من مشاعر حقيقية بعيدة عن الزيف والخداع والكذب الذي جعله الحبيب نوعًا من الخيال في سن الطفولة المبكرة، كذلك فهو جيل كانت المرأة فيه توزن بميزان من ذهب لما لها من قيمة معنوية ومكانة اجتماعية، وذلك بما كانت عليه من عفة حياء وستر وتربية أصيلة، نعم.. إنهم جيل كانوا وما زالوا يفخرون بأنفسهم وبماضيهم الأصيل، فكيف لا نفتخر بهم نحن وهم أولئك الأشخاص الذين صنعوا لنا الحاضر والمستقبل رغم كل التحديات والصعاب.
ومسك الختام؛ فإنني أقول عكس ما قاله ابن الحبيب متمنيًا عودة جيل الطيبين بكل ما فيه من شدة وغلظة وبكل ما فيه من صلابة وقسوة؛ ليزينوا دنيانا ويطهروا بالحب عالمنا، ويرجعونا إلى روح تلك الحياة البسيطة البعيدة عن التكلف والحياة المادية التى أرهقت كواهلنا وضيقت علينا صدورنا، وجعلتنا لا نفكر إلا بلغة الأرقام والحسابات المعقدة، متمنين أيضًا أن يعلم ابن الحبيب وغيره من المتفلسفين أن الجيل القديم لم يكن ساذجًا ولا محدود القدرات، وإنما تعامل مع أدوات عصره الممكنة بأحسن ما يمكنه ذلك، حتى وإن كانوا لم يصلوا إلى درجة النضج الاجتماعي والتعليمي، ولم يملكوا أدوات الفلسفة التي جعلت من البعض أجسادًا بلا أرواح، لكنهم عاشوا حياة بسيطة حقيقية ذات هوية واضحة منتمية للمكان وأهله وعاداته، وتقاليده.
وخزة قلم:
صراع الأجيال فطرة رافقت الإنسان منذ نشأته الأولى، فالإنسان بطبيعته يميل إلى حب الآنا التي أصابت البعض بلوثة معرفية في ظل التسارع الزمني للتقنية.