شريان الحياة في المملكة العربية السعودية وحلقة الوصل الأكبر هو ميناء جدة الإسلامي, له أهمية عظيمة؛ نظرًا لقداسة الحرمين الشريفين الذي يأتي له من كل مكان القاصي والداني عبر البر والبحر والجو، وقاصدين بيت الله الحرام عن طريق البحر لابد من أن يمروا بميناء جدة، وهنا تكمن أهميته لأنه يستقبل الملايين سنويًا.
ميناء جدة قديم الأزل قبل عصر الدولة السعودية؛ حيث أنشئ ميناء جدة في عهد ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان سنة 26هـ؛ ليحل محل ميناء الشعبية في مكة.
وقد أخذت جدة في الازدياد؛ نتيجة لعودة حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر وازدهارها على حساب طريق الخليج فمن المعروف أن التنافس كان على أشده منذ القدم بين طريق التجارة في البحر الأحمر وطريق التجارة في الخليج, فيزداد أهمية أحدهما على الآخر وفقًا للظروف القائمة والقوى المتحكمة في كل منهما, فنتيجة لضعف الدولة العباسية استطاع الفاطميون تحويل النشاط التجاري البحري إلى البحر الأحمر، وأصبح الشريان الرئيسي الذي يربط الشرق من الناحية التجارية بالغرب، والمتحكم في التجارة العالمية وقتذاك، واهتم الأيوبيون بتأمين الملاحة فيه.
ولهذا اتجهت إليه الدول المملوكية بعناية خاصة لموانئه الهامة على طول ساحل البحر الأحمر، وهو ساحل بلغ طوله 1100 كلم, لذلك عملت سياسة الدولة المملوكية على إضعاف مركز عدن التجاري منذ ازدهار طريق البحر الأحمر التجاري في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وإحلال ميناء جدة محلّه، فقد كانت جدة واجهة مكة البحرية وعتبتها على البحر تؤمها المراكب من اليمن والشرق الأقصى وشرق أفريقيا ومصر والشام؛ حيث تفرغ حمولتها فيها ومن ثم تنقل إلى مكة، وذلك بعدما ساءت العلاقات السياسية بين المماليك وسلاطين بني رسول في اليمن، ومحاولات المماليك فتح اليمن وانتزاعها من بني رسول؛ إضافة إلى اضطراب الأوضاع الداخلية في اليمن، والتنازع على السلطة، وسياسة التعسّف التي اتبعها سلاطين اليمن مع التجار.
وكان السرّ وراء حيوية هذه الموانئ واستراتيجياتها الاقتصادية وحتى العسكرية هو وقوعها على ساحل البحر الأحمر الذي يعتبر من أهمّ طرق التجارة الدولية الرئيسية في العصر الإسلامي بكلّ أدواره؛ لاسيما إذا علمنا أن هذا البحر كان بحرًا إسلاميًا خالصًا في مختلف عصوره، اللهم لبعض السنوات القليلة التي هدّد فيها العدو الصليبي الإفرنجي سلامته في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، ثم أعاد تهديده في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي العدوّ الصليبي البرتغالي, ولقد أدركت الدولة المملوكية – كغيرها من الدول التي حكمت الحجاز قبلها – أهمية الساحل الحجازي بما يضُمُّه من موانئ تجارية هامة، فانتهجت سياسة اقتصادية خاصة ذات طابع سياسي خفيّ في النصف الأول من القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي لجلب التجارة البحرية الدولية إلى موانئها الحجازية، وعُرفت هذه السياسة بـ “التّجوير”، وهي كلمة معناها في اللغة مشتقٌّ مِنْ جار يجُور جوْرًا؛ أي الطريق لم يهتدِ فيه..
عضو اتحاد المؤرخين العرب