المقالات

الإعلام رسالة.. وليس وسيلة

قال صاحبي: للإعلام سطوته في إشعال الحروب وفي إطفائها؛ لذلك تعد وسائل الاتصال أحد الأسلحة المهمة والفعّالة التي تلجأ إليها الحكومات لتضمينها كل ما يؤثر على الرأي العام، حتى يمكن السيطرة عليه، وكسب تأييده للصراع العسكري، وفي المقابل يمكن للرأي العام، ولوسائل الاتصال المختلفة أن تمارس نفوذها في إيقاف الحروب، بدلًا من تأجيجها، كيف يمكن فهم هذه الثنائية، ومتى يحرك الرأي العام الإعلام، وكيف يحوله من مؤيد للحرب إلى رافض لها؟
كنت في لقاء تليفزيوني على قناة DW الألمانية للحديث عن موقف الدول الخليجية من الأزمة في أوكرانيا، ولكن الحديث تشعَّب، وأخذ مسارات عدة، برغبتي، وبرغبة المذيع أحيانًا أخرى. حاول مقدم البرنامج جاهدًا وصف الموقف الخليجي الذي أراه حياديًا، وانحيازًا طبيعيًا لمصالحها، ويراه هو انحيازًا لبوتين روسيا، وحتى يشوه الموقف الخليجي، ويشيطنه سعى لوضعه في الموقف الخاطئ!! بالغ في صف بوتين بالمعتدي والسفاح وغيرها من النعوت، فذكرت له أنني أنا غير منحاز لموسكو، ولا لواشنطن، ولكن يجب عليك كما عددت جرائم روسيا في سوريا، والشيشان مثلًا، أن تكون منصفًا وتذكر جرائم أمريكا في العراق وأفغانستان، وفيتنام.
ومن فيتام سوف أتحدث بمناسبة مرور خمسين عامًا على الصور التي نشرتها الصحافة، وتسببت في إيقاظ ضمير الرأي العام الغربي، الذي ساهم بدوره في تحول موقف وسائل إعلامه من دعم الحرب، إلى المطالبة بإيقافها، تلك الصورة الصحفية المهنية أغنت عن مئات الصفحات، وآلاف الكلمات، بفضلها تحولت وسائل الإعلام إلى حمامة سلام بدلًا من كونها حمًالة الحطب، فالتاريخ يحتفظ لنا بذكريات هذه الحرب التي ساهمت تقنيات جمع الأخبار المتاحة بحلول الستينيات من القرن العشرين في الحصول على تغطية حية نسبيًا للنزاع العسكري، إذ كانت أول حرب مرئية مفتوحة على مُستوى العالم، وصفت بأنها الحرب التلفزيونية الأولى.
ومع ذلك كان لصورة فوتوغرافية وثقتها عدسة المصور الفيتنامي هيون كونغ أوت مراسل وكالة اسوشيتد برس لطائرات أمريكية تقذف قنابل النابالم الحارقة، والمحرمة دوليًا على قرية فيتنامية، إصابة مجموعة من المواطنين بينهم طفلة صغيرة تدعى كيم فوك فان ثي لم تتجاوز التاسعة من عمرها، -اشتهرت فيما بعد بفتاة النابالم-، كانت الصورة كالفتاة المسكينة تنزف ألمًا من الحروق التي تعرضت لها هذه الصغيرة البريئة، ولم يكتفِ الضمير الصحفي الحي بصورة فتاة النابالم، بل أضاف إليها صورًا أخرى لملازم أمريكي وهو يعدم المدنيين الفيتناميين العزل بطريقة وحشية، كان لهما الفضل في ظهور الحركة المناهضة للحرب بين الشباب في أمريكا؛ حيث ظهر الاشمئزاز على نطاق واسع مُصاحب للوعي المتزايد بالوحشية العسكرية الأمريكية في جنوب شرق آسيا مما جعل الرأي العام الأمريكي يخرج عن سيطرة الحكومة.
ولم تكن الصور الصحفية وحدها هي من جعلت الحرب تضع أوزارها، فقد كانت تقارير كرونكايت – صحفي في قناة سي بي أس، اشتهر بالرجل الأكثر موثوقية في أمريكا- داعمًا ومؤيدًا للموقف الشعبي المناهض للحرب، لدرجة قول الرئيس الأمريكي جونسون: لأني خسرت تأييد كرونكايت فقد خسرت شريحة كبيرة من المواطنين الأمريكيين.

ومع جهود العلاقات العامة العسكرية التي بذلتها الحكومة الأمريكية في حرب فيتنام، إلا أنها فشلت فشلًا ذريعًا، ولهذا أمر الرئيس نيكسون بسحب للقوات في أوائل السبعينيات، وقد نسب الكثيرون من المراقبين، فضلًا عن بعض الخبراء في المؤسسة السياسية الأمريكية الفشل العسكري الذي قد حدث في هذه الحرب إلى الفشل في استخدام الاتصال السياسي من خلال وسائل الإعلام.

مما سبق يتضح أن استخدام الاتصال السياسي في الصراعات والحروب يُمكن أن يكون سببًا لاستمرار الحروب أو إيقافها، كما يمكن أن يكون سببًا لكسب الصراع أو خسارته، وذلك يعتمد على كيفية استخدام هذا النوع من الاتصال، ومحتوى المضامين الإعلامية المصنوعة والمنتقاة بمهنية عالية، فمن يضع الإطار يتحكم بالنتائج، فقد تُصمت أصوات الإعلام أصوات المدافع، وعلينا أن نؤمن بأن حروب المستقبل لن يقودها جنرالات فقط.
قلت لصاحبي:
قد تكسب المعركة في الميدان.. وتخسرها في الإعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى