المقالات

الاستسلام للنقص: معنى أن تكون كاتبًا

أكتب هذه المقالة، وأنا في خضم كتابة روايتي القادمة، ورغم أني ما زلت في الفصل الثاني، ولم أُنهِ إلا ثلث القصة أعرف من الآن أن اللحظة التي أسلّم فيها الرواية ستكون لحظةً منغمسةً في الشك والتردد.

إن سلّمت عملًا مكتوبًا -خصوصًا رواية، أو قصة طويلة- فعلى الأغلب مررتَ بما ما مررتُ به، فلماذا نعيش هذه التجربة العجيبة؟

الفجوة بين العقل والنقل

“أرني كاتبًا راضيًا بما كتب، يقول: إن مرحلة الكتابة مرت بسلاسة، وسأريك (كاتبًا) هاويًا.” قد يبدو هذا الرأي متطرفًا في الوهلة الأولى، لكن انتظر لتقرأ ما يقوله صاحب المقولة تاليًا قبل إصدار حكمك. “في الكتابة تتعامل مع مشاعرك، ولهذا الأمر منطقي أن تنضح بكل هذه المشاعر.”
ويؤكد أب الرواية العربية نجيب محفوظ هذه النقطة في حديثه عن مراجعته لأعماله بعد الانتهاء منها: “غالبًا يشوب هذه القراءة شيء من خيبة الأمل، لأن هناك فجوة بين ما تخيلناه وما نفذناه”.
لم أكن على علمٍ بهذه الفكرة قبل سنتين عندما نشرت روايتي الأولى (2050). وفي اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة النسخة التجريبية المُرسلة من دار النشر للمراجعة أصابتني خيبة أمل لا توصَف. كيف يُعقل أن يتسبب أول نتاجٍ لي -وما تخيلت أنه سيكون فرحة خالصة- بكل هذا الإحباط واليأس؟
أما الآن وبعد سباحتي في بحر خيبة أمل تسليم القصص، أستطيع الجزم بملازمة هذا الشعور لي طالما أردت نشر ما أكتب، بحدةٍ متذبذبة حسب العمل الذي كتبت وحسب نتيجته.

مُناجاة

يقول الشاعر والروائي جاك كيروك “يومًا ما سأجد الكلمات الصحيحة، وستكون في غاية البساطة”. جميعنا نبحث عن هذه الكلمات الصحيحة البسيطة، دون معرفة إن كنّا سنجدها يومًا، فالفكرة، هذا “الشيء” التجريدي السابح في الدماغ، كيف لها التحول على أيدينا لكلمات محسوسة منطقية دون تشويهٍ وتحريف؟
قد تنجح بنقل 50% من الفكرة، 60%.. 70%.. حسنًا، 80% بعد سنين من الخبرة، و90% لو كنت نابغة زمانك، لكن لا يوجد داعٍ لمحاولة إحياء آينشتاين لنستنتج عدم وصول هذه الأرقام لـ 100% وهذا يعني بالضرورة، نقص أعمالنا ككُتّاب.
توضيحٌ مهم، نقصنا لا يعني بتاتًا هزيمتنا، فأنا مؤمن بأن كل رواية جيدة هي معجزة مُصغرّة، لكن الفكرة تكمن في محاولاتنا الفاشلة في تحويل تلك الفكرة ذات الهالة المقدسة دون تدنيسها بكلمات في غير محلها وصياغات ركيكة وشخصيات لم تُقرأ كما أردناها أن تُقرأ.

أهناك زهرة في هذه الصحراء القاحلة؟

قال نجيب محفوظ عندما سُئل عن قرار نشره لقصصه “أنا كتبت، وكررت، وشطبت، فهل يا تُرى هُناك إضافة أستطيع إعطاءها للعمل أم هذا أفضل ما عندي؟ إذا كان عندي المزيد (أضيفه)..” ثم يكمل بلسان جميع الكُتّاب “وإذا كان هذا أفضل ما عندي، أخلص بئى”.
خلال إعدادي لهذه المقالة، وجدت عشرات المقالات الأجنبية التي تحمل نفس العنوان المُتفِق مع ما قاله النجيب. أغلب العناوين كانت من جنس “توقف عن البحث عن المثالية في الكتابة وانشر كتابك”.
وهذا ما فعلته، فبعد قضاء أيامٍ من التفكير بمستوى روايتي المنشورة، سألت نفسي صراحةً “هل امتلكت وقت كتابتها إضافةً استطعت إعطاءها للعمل قبل نشره؟” جوابي كان “لا، قدمت أفضل ما عندك في تلك الفترة.”
قررت حينها التوقف عن البحث عن المثالية وتحميل الرواية ما لا تحتمل، واعتزمت المحاولة في عملٍ قادم على رفع نسبة نقل العمل دون تشويه قدر الإمكان. ثم بابتسامةٍ محفوظية كبيرة وضعت روايتي على الرف مفتخرًا بالإنجاز بعد قراري بأن أخلص بئى.

محمد عبدالرحمن الأحمدي

كاتب إبداعي - قاص - روائي - مؤسس منصة سرد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى