الحج هو أكبر مؤتمر إسلامي، يحضره المسلمون من أنحاء العالم، وربما هو أكبر تجمع بشري على وجه الأرض في مكان وزمان محددين، ناهيك عن ارتباطه بالقيم الدينية والأخلاقية، والتي تجعل منه سببًا لغرس الآثار الحسنة في الحجاج، فهو مدرسة إيمانية نتعلم فيها كثيرًا من أمور الدين والآداب الشرعية، وهو فرصة عظيمة لحصد الحسنات وبلوغ أعلى الدرجات، سواءً للحجاج أو للقائمين على خدمتهم.
قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ • لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ • ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 27)
فالحج ثمرة يانعة من الأخلاق الفاضلة التي يتصف بها الحجاج بسبب تواجدهم في صعيد واحد ووقت محدود، مع اختلاف جنسياتهم ولغاتهم وثقافاتهم وتباعد بلدانهم، إلا أنهم ورغم قصر المدة، وهذه من حكمة الله في العبادات وما تتركه من الأثر في النفوس، فالله – تعالى – يقذف في قلوب الحجاج العطف والشفقة والرحمة والتآلف والتآخي، فكأنهم أبناء رجل واحد لما ترى بينهم من المساواة والتعاون والتآزر والتكافل والإيثار، والتذلل والخشوع والانكسار بين يدي الله.
أما عن أبناء هذه البلاد المباركة والقائمين على خدمة الحجاج، فقد اصطفاهم الله سبحانه وتعالى بشرف عظيم، وحمّلهم مسؤولية كبيرة ومهمة جسيمة، وهي خدمة بيته الحرام وضيوفه الكرام، فلقد كان العرب قديمًا بل وحتى قبل الإسلام يتسابقون على خدمة الحجاج من خلال السقاية والرفادة والسدانة طلبًا لهذا الشرف.. فكيف إذا كان الأمر متعلقًا بأمر رباني وتكليف إلهي في خدمة بيته العتيق وقاصديه، فلقد اختارنا الله سبحانه بكرمه من بين كل الأمم لأداء هذه المهمة، فأي شرف عظيم هذا، وأي مسؤولية جسيمة، فينبغي على أبناء هذه البلاد المباركة أن يبذلوا كل ما في وسعهم ليكونوا على قدر هذا الشرف، وليؤدوا هذه المهمة على الوجه الذي يرضي رب العالمين، وينالوا بها الأجر والثواب..
ولكي يتحقق ذلك فإن الإخلاص في العمل هو العنصر الأهم، فأي عمل يؤديه الإنسان يؤجر عليه إذا أخلص النية فيه لله، وعلى الفرد أن يستشعر بالمسؤولية المُلقاة على عاتقه، خصوصًا إذا كان هذا العمل يتعلق بأمر إلهي، يقول الحق سبحانه وتعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 127)، فكلما استشعر الإنسان بالمسؤولية كلما زادت إنتاجيته في العمل، فالاستشعار بالمسؤولية هو خلق المؤمن الذي يتقي الله في السر والعلن في جميع أعماله، وينعكس في تعاملاته مع الآخرين وفي حياته اليومية؛ لأنه عرف أن الله سيكتب له أجر ذلك.
فيجب علينا جميعًا أن نستشعر عظم المسؤولية التي كلفنا بها الله -عز وجل- وابتغاء وجهه في كل الأعمال، وأن نتقي الله فيما استرعاه تحت أيدينا، وإنا إن شاء الله لفاعلون..
ومنذ بداية هذه الدولة المباركة (المملكة العربية السعودية) وضعت في أولوياتها الاهتمام والعناية بخدمة بيت الله الحرام وضيوفه الكرام، وحرصت على تسخير كافة الإمكانات المادية والبشرية، وتسمى ملوكها بـ(خادمي الحرمين الشريفين)، وهو شرف مستحق، فمنذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز- طيب الله ثراه- إلى هذا العهد المبارك، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وهم يتسابقون في البناء والتطوير للمدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكل ما يعمل على تطوير وتيسير أداء شعيرة الحج، وشمل هذا التطوير كافة المرافق الخدمية والصحية والأمنية واللوجيستية وكل ما يساهم في راحة وطمأنينة ضيوف الرحمن، وتؤكد القيادة الرشيدة باستمرار على المسؤولين في جميع القطاعات اهتمامها البالغ بأن يؤدي الحجاج فريضتهم بكل يسر وسهولة حتى إتمام مناسكهم وشعائرهم والعودة سالمين غانمين إلى ديارهم وأهليهم.
فعلينا جميعًا أبناء هذه البلاد أن نستشعر عظم هذه المسؤولية التي اختصنا وشرفنا الله بها من بين الأمم، والتي كلفنا بها ولاة أمرنا، وأن نبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، ثم تحقيق تطلعات وتوجيهات ولاة أمر هذه البلاد الذين لم يدخروا وسعًا من أجل بلوغ هذا الشرف العظيم.
وفي الحقيقة أنه في كل موسم حج تبرز العديد من الصور المُبهجة التي تبعث على الفخر والاعتزاز بأبناء هذا الوطن، وهم يتفانون في خدمة ضيوف الرحمن، فهي تجسد المعاني السامية والمشاهد الرائعة وهم يبادرون لمساعدة كبير السن والعاجز، والعطف على النساء والأطفال، وسقاية الحجاج وبذل الطعام ولقائهم جميعًا بابتسامة ترحيب ووجه بشوش، وخفض الجناح وحلو الكلام في الحديث، وطيب المعشر في الوفادة والرفادة والمبادرة في الأعمال التطوعية، بما يلفت إلى قيامهم بهذه الأعمال برحابة صدر وسعادة غامرة طلبًا للأجر والثواب.
وختامًا..أسأل الله جلت قدرته أن يعيننا جميعًا على أداء المسؤولية على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يجعل ما قدمناه في موازين حسناتنا، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتقبل منا ومن الحجاج حجهم، إنه سميع مجيب.
0