المقالات

استاذة جامعية - باحثة سياسية

لقد أذهلتني حلقة من برنامج مايكل نولز Michael Knowles، وهو مُعلق سياسي أمريكي محافظ، تحدث فيها أن ما أطلق عليه  “اليسار المتطرف” يعطي انطباعًا خاطئًا عن أن المحافظين يكرهون الإسلام والمسلمين، وأوضح أن اليسار يدعي أنه إذا أردت أن تخرج محافظًا من أي مكان ما عليك إلا أن تحضر مسلمًا لكي تضمن عدم بقائه. وقد وضح مايكل نولز في الحلقة أن هذا الادعاء باطل خاصة في الوقت الحالي، الذي يرى فيه نولز أن اليسار المتطرف هو الخطر على أمريكا وليس الإسلام، بسبب نشرهم لـ “المثلية” والإلحاد في المجتمع الأمريكي.
لقد أكد مايكل نولز، في برنامجه، أن الخطر الآن من اليسار الراديكالي، ونوه أنه لو خُيّر الآن فإنه سيفضل إرسال أطفاله إلى مدارس مسلمين بدلًا من إرسالهم إلى مدارس عامة “woke”، لأنه مهما كانت الاختلافات بينه وبين المسلمين في مسائل العقيدة، على الأقل فإن المسلمين لن يقنعوا ابنه بأنه فتاة، والأطفال ليسوا أطفالًا حقًا، وأنه لا يوجد إله. ثم اختتم الحلقة بقوله: إن ادعاءات اليساريين المتطرفين بأننا نحن المحافظون نكره كل المسلمين ليست صحيحة، لأننا نعتقد أن الخطر الأكبر يأتي من الإلحاد و”المثلية” التي يفرضها اليسار الراديكالي.
ومن هنا يتضح لنا أن اليسار الغربي تحوَّل من مدافع عن الحقوق العمالية إلى مناضل من أجل نشر “المثلية”، كما تحول نهجه من الدفاع إلى العدوانية في طرحه ضد الرافضين لهذه الأفكار والتوجهات ويحاول فرضها بالإجبار. وقد اتجه لفرضها في اتجاهات عدة: من خلال منع منصات التواصل الاجتماعي للنقاش بشأن خطورة المساس بـ “الفطرة الإنسانية”، نشر مشاهد “المثلية” عبر الأفلام والمسلسلات والفعاليات الترفيهية، تلقين الأطفال “مفاهيم المثلية” في المدارس، ومنع آبائهم من تصحيح القيم.
يتساءل الشخص لماذا كل هذا العدد من مجتمع الميم في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؟ ولماذا الأقليات الجنسية تكون من أولويات الرئيس؟ ففي أول خطاب له حول السياسة الخارجية، طلب الرئيس بايدن من الوكالات الأمريكية الموجودة في الخارج تقديم خطة عمل خلال 180 يومًا لحماية الأقليات الجنسية في العالم وليس أمريكا فقط، كما أعاد إطلاق مبادرة اتخذها عام 2011 الرئيس الأسبق باراك أوباما من أجل “الترويج لحقوق أفراد مجتمع الميم في أنحاء العالم”، بالإضافة إلى مطالبته من مجموعات الضغط والمنظمات غير الحكومية تكثيف حملاتهم.
من الغريب أن نجد أن من أولويات بايدن حماية حقوق المثليين ليس فقط في أمريكا بل العالم بأسره، وكأن العالم ليس فيه أي من الكوارث والصراعات سوى حقوق المثليين. فالمتعارف عليه أن مواضيع كهذه لا يتحدث بها رئيس دولة في خطابات الأمة، فهناك مؤسسات معنية بحقوق المثليين وغيرهم. كذلك التدخل في ممارسات وقيم الشعوب إلى حد إجبار الآباء على عدم منع الأطفال من تعليم مفاهيم المثلية في المدارس أمر يخالف أبسط حقوق الإنسان والحرية في التربية. فكيف يمكن الادعاء بالدفاع عن حقوق مجموعة وإلغاء حقوق الآخرين؟
لو تمعنا فيما يحدث، يمكننا أن نرى تشابهًا بين فرض الإسلاميين المتطرفين للقيم الاجتماعية والدينية واليساريين المتطرفين الذين يمارسون نفس العدائية بفرض قيمهم على المجتمعات. فالشعوب لا تقبل بفرض قيم راديكالية عليها سواء كانت هذه القيم مفروضة بسبب دوافع أيديولوجيات دينية أو يسارية، ولهذا تمردت الدول العربية على حكم الإخوان في عهد ما يسمى مغالطة بالربيع العربي.
الآن، نجد أصواتًا من الجهة المحافظة تتعالى في أمريكا ضد هذه التدخلات وفرض القيم التي تعتبر في نظرهم شاذة عن الطبيعة البشرية، فقد ذكر السيناتور تيد كروز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس، أن قرار إضفاء الشرعية على زواج المثليين كان “خاطئًا بشكل واضح”.
وكذلك ذكر الرئيس السابق دونالد ترامب في إحدى تجمعاته في أريزونا أمام حشد كبير من المؤيدين له: “لقد حان الوقت لتحطيم منظومة التعليم الفاسدة لليسار الراديكالي بالكامل. أطفالنا أسرى لمعلمين ماركسيين يجبرون أطفالنا على تعليم المواد الجنسية والعرقية. من أصغر سن ممكن، حتى إنه من غير المعقول الاستمرار في ذلك. يجب دعم وتشجيع الآباء على سحب أطفالهم من هذه المدارس وإرسالهم إلى مدارس ميثاق ديني أو إلى مدارس منزلية تتم تحت اختيارهم”.
فالأكاديمي والمستشار الاستراتيجي الأمريكي، بروس أبرامسون، Bruce Abramson ذكر في كتابه “الحرب الأهلية الجديدة” The New Civil War أن الولايات المتحدة تعيش الآن مرحلة انقسام كبيرة بين التقدميين Progressives والاستعاديين Restorationists.
فهذه المرحلة، على حد تعبير الكاتب، تعتبر مرحلة انهيار مماثلة للحرب الأهلية الأمريكية الأولى، حيث يوجد نظامان سياسيان واقتصاديان واجتماعيان غير متوافقين بشكل أساسي، والأمر لا يقتصر على اختلاف في صنع السياسات فقط بل قيم غير متوافقة وآراء متباينة.
“التقدمية”، كما وصفها الكاتب، هي أيديولوجية يسارية ترفض كل المبادئ التي تأسست عليها أمريكا وتريد فرض مبادئ جديدة، أما “الاستعادة” فهي حركة للأمريكيين التقليديين والوطنيين الذين يرغبون في استعادة القيم الأمريكية التقليدية، لأنها تمثل أعظم انتصار للولايات المتحدة. إن هذا الصراع الدائر بين هذين التيارين في الداخل الأمريكي يمثل حربًا أهلية باردة أمريكية الآن.
وإذا كان هذا حال تخوف المواطن الأمريكي من فرض اليسار الراديكالي لقيمهم على المجتمع الأمريكي، فما بالنا نحن المسلمين وما هي خطتنا لمكافحة هذا الوباء الفكري القادم خاصة أن اليسار الغربي تحوَّل اتجاهه من الدفاع عن قيمهم كالمثلية إلى العدوانية ضد الرافضين لها ويحاول فرضها بالإجبار؟ ومن هنا نرى أن الجهود الفردية في مواجهة هذا المد الفكري بنشر أو بالأصح بفرض “المثلية” لا تكفي لأن واضح اتجاه اليسار المتطرف تحول من إعطاء حقوق للمثليين إلى فرض هذا الفكر وبعدوانية ليس على أمريكا فقط بل العالم بأجمعه وهناك اتجاه مدروس إلى تدمير منظومة “الفطرة الإنسانية”، ما نحتاجه الآن هو حملة كبيرة تضم جميع الجهات ونكون متيقظين بشأن المناهج الدراسية، والبرامج الترفيهية من أفلام ومسلسلات، وألعاب الأطفال الإلكترونية وغيرها، ونعمل على إيجاد البديل ونتعاون مع الجهات الغربية والعالمية التي تشاطرنا في هذا التأهب والنهج.

* استاذة جامعية – باحثة سياسية

One Comment

  1. مقال مهم جدًا، أشكر كاتبته على جهودها فيه، وأشاطرها ما ذهبت إليه من توجه اليسار الراديكالي المنحرف عن الفطرة الإنسانية وما يمارسونه من فرض قيمهم الشاذة على بقية المجتمعات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button