المقالات

نيوم … ذا لاين … وجبال الجليد

الأفكار الإبداعية الرائدة، تتعرض دائمًا لاحتجاجات وحملات معارضي التغيير، من الحساد والمشككين في النجاح، والمتكئين على وسائد الراحة في مساحة المُجرّب والمألوف والمضمون.
وعبر التاريخ واجه كل من رفع لواء الخروج على (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) رفض وحرب التقليديين والمحافظين. سواء كان التغيير دينًا سماويًا أو مشروعًا توحيديًا لمناطق وقبائل متفرقة، متصارعة، أو أسلوب حياة. ويتحقق النجاح في كل مرة بإرادة سماوية، يسخر لها الخالق صالح خلقه، وتلبيها إرادة بشرية قائدة، ملهمة، صلبة، لا تؤمن بالمستحيل.

قيل للملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- عندما وجّه شركة أرامكو بإنشاء أول خط سكة حديدية بين الرياض والدمام، أنه مشروع مكلف، لا حاجة له، وأن إنشاء طريق معبّد يكفي. إلا أنه كان صاحب رؤية تتقدم زمنه، وكما وقع مع الشركات الأمريكية اتفاقيات التنقيب عن الماء والزيت، وأقام أول شبكة اتصالات برقية وهاتفية، وأنشأ أول إذاعة، وأدخل السيارة والطائرة وبنى الموانئ والطرق، واستعان بالخبراء الأجانب، وابتعث الدارسين إلى الخارج، رغم احتجاجات المؤدلجين والجاهلين، فقد أصر على تنفيذ هذا المشروع الأول في جزيرة العرب، والذي أثبت نجاحه وضرورته، ورحب به حتى المعارضون بعد قيامه.

ولما قرر الملك فيصل السماح بتعليم البنات، وقرر الملك فهد إنشاء المدينتين الصناعيتين الجبيل وينبع، واعتمد الملك عبد الله مشروع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ووجهت هذه المشاريع بحملات مماثلة في الداخل والخارج، إلا أن أصحاب الرؤية السبّاقة والقيادة الحازمة نجحوا بحزم وعزم في تحويل الأفكار إلى واقع أثبت ضرورته وجدواه، وتقبله الجميع.
وعندما عرض أحد أوائل وكبار المبدعين السعوديين، الأمير محمد الفيصل، مشاريعه الابتكارية مثل تحلية مياه البحر، ونقل جبال الجليد من القطب الجنوبي إلى سواحل البحر الأحمر، والبنوك الإسلامية، كان أول سؤال يواجهه: من سبقنا إلى ذلك؟ فإن قال نحن السابقون، قال له المعارضون لن نغامر بما لا تثبت التجارب جدواه.
خطرت ببالي هذه القصص المعلّمة، وغيرها كثير، وأنا أتجول في معرض “ذا لاين” في “سوبر دوم جده” والمرشدة السعودية تشرح بحماس الشباب الأفكار الإبداعية التي لم تخطر على بال، ولم يسبقنا إليها أحد. وخلال ساعة كاملة استغرقتها الجولة، لم يغادرني السؤال: كيف سينجح المشروع “غير المسبوق” والطموح بكل المقاييس العلمية والاقتصادية، في وجه عواصف التشكيك خاصة من جانب الإعلام الغربي، وكيف سيتغلب على التردد من جانب كبار المستثمرين والممولين. ولماذا لم يفكر فيه غيرنا، خاصة في دول عُظمى سبقتنا في التقدم التقني والمدنية الحديثة. توصلت في نهاية المطاف إلى أن السر يكمن في “الإرادة السياسية” و”التوافقية الوطنية” و”الملاءة الفكرية” و “الكفاءة التنفيذية”.
وهذه المزايا يصعب توفرها معًا في بلدان يتوزع القرار وتتشتت الإرادة بين قطاعات حكومية تنفيذية وتشريعية وقضائية مختلفة، وبين كيانات مالية وتجارية متعددة، وتحت تأثير منظمات مجتمعية وحقوقية وحزبية متفرقة. أما القيادة السياسية “الديمقراطية” فدوافعها قصيرة المدى، تحكمها التوجهات الحزبية والأهداف الانتخابية، وتؤثر عليها النخب الفكرية وإعلام الإثارة. ولذلك فإن مشاريع القيادات السياسية تنشد بالضرورة التوافقية الكاملة، ولا تتحمس لتلك التي سيجني ثمارها من سيأتي بعدهم، وتتخوف من تلك التي لا تضمن نجاحها.
كل هذه العيوب “الديمقراطية” و”الشعبوية” و”الهيكلية” تعطّل الأفكار التقدمية والمشاريع التاريخية، وتدفع بالمبادرات الأحادية للقطاع الخاص وحكومات الأقاليم والولايات والمدن، وتوفر لها الدعم المحدود بقيود الميزانيات العامة والتشريعات القومية والمحلية، والمماحكات السياسية والإيدلوجية.
في المقابل، تستطيع الإرادة السياسية، في السعودية ودول الخليج، أن ترسم خارطة طريق، ورؤية مستقبلية، وخططًا استراتيجية متضامنة، متناسقة، متزامنة. وإن تجمع لها إرادة التنفيذ من حكومة موحّدة، وقطاع خاص مدعوم، وإعلام تنموي واعٍ، ومجتمع متكاتف. ثم تحميها من المشككين والمتآمرين والمعطلين في الداخل والخارج.
ومشروع نيوم، وغيره من المشاريع الكبرى التي تشهدها السعودية، ودول الخليج العربي، آخر الأمثلة على نجاح نظام الحكم الرشيد فيها بتحقيق القفزات التنموية بمعدلات دولية غير مسبوقة. وعلى المترددين في تصديق إمكانية التحقيق، مراجعة سجل هذه الدول في العقود الأخيرة، ومقارنته بسجلات دول كبرى، تدعي أنها تملك وحدها النموذج الأمثل للحكم المستنير، والتنمية المستدامة، والحلول السحرية لتقدم البشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى