عندما تُليت، في بداية القمة الأمريكية العربية، آيات من الذكر الحكيم، كان مطلعها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، بدت الدهشة والامتعاض على وجوه كثير من أعضاء الوفد الأمريكي، والإعلاميين المرافقين … ثم تصاعد الجدل. ما هي الرسالة المقصودة؟ هل هو رد على ضغوط إدارة بايدن لدعم مجتمع المثلية والتحول الجنسي؟ أم أن المقصود بها رسالة سلام وتسامح، فكلنا لآدم وآدم من تراب؟
حدود التسامح
الإجابة الصحيحة قد تجمع المعنيين. فالسعودية تقود منذ عقود مشروعًا حضاريًا للحوار بين الأديان والثقافات، والتسامح العرقي والطائفي، ردًا على نظرية “صراع الحضارات” ودعاة الكراهية والفتن والفكر الظلامي الذي قاد العالم إلى شفا الهاوية. ولكنها أيضًا، كقلب جزيرة العرب، مهد خمس رسالات سماوية للأنبياء العرب هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد -عليهم أفضل الصلاة والتسليم- وحاملة لواء الإسلام والعروبة، لا يمكن أن تقبل بتجاوز وتعدي من خرجوا على الفطرة الإنسانية والأديان السماوية والقيم الإنسانية منذ مشرق أول حضارة في الكون.
وكانت السعودية في قمة التنمية المستدامة التي عُقدت ضمن الدورة 70 للجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر/ أيلول 2015)، أعلنت في خطاب لوزير خارجيتها آنذاك، “عادل الجبير”، “إن المملكة العربية السعودية وهي تشارك في هذه القمة وتتوافق مع مخرجاتها وأهدافها، لا بد أن توضح موقفها حيال بعض الفقرات الواردة في هذا البيان والتي يُمكن أن تُفسّر بشكل يتعارض أو يُخالف تعاليم وأحكام الشريعة الإسلامية. وهنا نود التأكيد على أن الإشارة إلى الجنس في النّص، يعني بدقة ذكرًا أو أنثى، وأن الإشارة إلى العائلة في النص يعني الأسرة التي تقوم على الزواج بين الرجل والمرأة، وفي حالة خروج هذه المصطلحات عن مقاصدها فإن بلادي تؤكد على حقها السيادي الكامل في التحفظ على تنفيذ أي توصيات تتعارض مع مبادئ ديننا الإسلامي وتشريعاتنا”.
خطر اليسار الراديكالي
وأمريكا اليوم تحتضن وتقود أكبر حركة في التاريخ لشرعنة الحرية الجنسية والمثلية والتحول الجنسي والترويج لأصحابها، بل وفرضهم على المشهد الإنساني والسياسي والتشريعي في كل بلدان العالم.
تقول الزميلة الكاتبة د. نجاة السعيد: إنها ووجهت برفض جميع الصحف العربية والدولية الناطقة بالعربية نشر مقال تعبر فيه عن موقفها من هذا الحراك، وتردد البعض الآخر، حتى تمكنت أخيرًا من نشره في موقعين، دولي وسعودي. البعض صارحها بتبنيه للحركة المثلية، ولكن الأغلبية كانت متخوفة من ضغوطها وردود فعلها!
إحياء المبادرة الأوبامية
وتشير السعيد إلى تأكيد المعلق السياسي الأمريكي المحافظ “مايكل نولز” أن الخطر الحقيقي اليوم هو اليسار الراديكالي، وإنه سيفضل إرسال أطفاله إلى مدارس إسلامية، لأنه رغم الاختلافات العقدية، فإن المسلمين لن يقنعوا ابنه أنه فتاة، وبعدم وجود إله. مؤكدًا عدم صحة ادعاءات اليساريين المتطرفين بأن المحافظين ضد الإسلام، فالخطر الحقيقي هو الإلحاد والمثلية.
وتتساءل: “لماذا كل هذا العدد من مجتمع الميم في إدارة بايدن؟ ولماذا تكون الأقليات الجنسية من أولويات الرئيس؟ ففي أول خطاب له حول السياسة الخارجية، طالب الوكالات الأمريكية الدولية بتقديم خطة عمل خلال 180 يومًا لحماية الأقليات الجنسية، وأعاد إطلاق مبادرة أوباما في 2011 التي تروج لحقوق أفراد مجتمع الميم دوليًا، وناشد مجموعات الضغط والمنظمات غير الحكومية تكثيف حملاتهم لنفس الهدف.
الأجندة الخفية
أتفق مع الدكتورة نجاة، وأضيف أن هذه الحركة باطنية لا تظهر حقيقة ما تريد. فقد جاء وقت كانت مطالبهم مختصرة بعدم رفضهم أو توبيخهم أو حرمانهم من العمل في مواقع معينة، مثل الجيش، وتحققت لهم هذه المطالب. ثم طالبوا بتخصيص مناصب عالية ومميزة تكريمًا لهم وتعويضًا عن الحرمان السابق، وتحقق لهم ذلك أيضًا، وأصبحوا وزراء ونوابًا وجنرالات ورؤساء مجالس إدارات، وحتى رجال دين. فماذا يريدون اليوم؟
بتصوري أن القضية أكبر من مجرد شعارات حقوقية، وأن الهدف الأساسي هو استكمال مشروع تقسيم المجتمع الإنساني، وتفكيك الأسر، وتشجيع “الحرية الفردية” المطلقة، والذي بدأ مع الثورة الصناعية في مرحلة ما بعد الحروب الدينية وسقوط الإمبراطوريات والإقطاعيات الأوروبية. فعندما يتحوَّل المجموع البشري إلى أفراد مستقلين، مختلفين، بلا مرجعية دينية أو قبلية أو أسرية، يسهل توجيههم وتسخيرهم لخدمة أهداف النخب الحاكمة والمسيطرة على مفاصل الإدارة والاقتصاد والأعمال. وقد تمكنوا من شرعنة أفكارهم وتوجيه دفة الثقافة المجتمعية بأسلوب يزداد عدائية وترهيبًا وفرضًا.
ولذلك يرى “دي إيميليو” في كتابه “المجتمعات الجنسية، السياسات الجنسية” “Secxual Politics, Sexual Communities” أن الطفرة الحقيقية للمثلية الجنسية تمت خلال الحرب العالمية الثانية؛ عندما جند 16 مليون شاب بعيدًا عن عائلاتهم ومدنهم وأحيائهم، ووضعوا في مجتمع ذكوري خالص.
محاربة المحافظين
تقول مسلمة أمريكية: إنها سمحت لابنها الصغير أن يربي شعره كالبنات بناء على رغبته، خوفًا من أن يشتكيها لمدرسته لو أجبرته على الحلاقة. وفي هذه الحالة تتدخل الحكومة وتتهمها بأنها تفرض على ابنها جنسًا معينًا، ولا تمنحه حقه في الاختيار!!
ومثلها يقبع ملايين المحافظين، دينيًا وأخلاقيًا، في كهوف الخوف والحيرة، فإن هم حافظوا على أبنائهم من تغول الحركات الجنسية المتطرفة وتعدي القوانين التشريعية التي تناصرهم، سرقوا منهم أبناءهم، وسلموهم لمنظمات وأسر تؤيد انحرافهم. وإن هم تهاونوا وتسامحوا انحرف أبناؤهم عن أديانهم وفطرتهم، وانقلبوا عليهم.
فرض الشذوذ
ويتداول متابعو وسائط التواصل الاجتماعي اليوم مقطعًا لمعلق ساخر في لقاء تلفزيوني أذيع في منتصف القرن الماضي، يروي فيه أن جاره الهندي قرر مغادرة بريطانيا نهائيا عائدًا لبلاده، وعندما سأله عن السبب، أوضح: كنتم تجرمون المثليين بالسجن والعقوبة الجسدية، ثم اكتفيتم بالعقوبات المادية التي تناقصت مع الأيام حتى ألغيت. وأخشى من زمن ينقلب فيه الحال، فتصبح المثلية إجبارية، يُعاقب من يرفضها.
هذه النبوءة توشك أن تتحقق اليوم، بعد أن أصبح الرفض لها جريمة، كما في قوم لوط، وفرض على الحكومات والأنظمة التشريعية والمؤسسات الاجتماعية والإعلامية الترحيب بها، وتجميلها، والترويج لها، ومن ذلك شرعنة الزواج المثلي، والترخيص بالتحول الجنسي للأطفال، وغرس هذه المفاهيم في المقررات الدراسية وعبر وسائل الثقافة والفنون والإعلام، والترويج للإلحاد وتشجيع الخروج على قيم الأديان والموروث الاجتماعي.
توصيات الصحة العالمية
ولهذا لم أستغرب عندما أوصى مدير عام منظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدهانوم غبريسوس، “مجتمع الميم” بتفادي الجنس مع أكثر من شخص، وقصر عدد الشركاء من ذات الجنس! وأوصى المستشار الصحي لرئيس الولايات المتحدة، الدكتور أنثوني فاوتشي، بتلقيح المثليين بعدما أثبتت الاحصاءات أن الغالبية الساحقة من المصابين بجدري القرود هم من المثليين. بينما كشفت وكالة الأمن الصحي البريطانية أن انتشار المرض كان بشكل ملحوظ بين “المثليين ومزدوجي الميول الجنسية” في كل من المملكة المتحدة وأوروبا، وأوصت بسرعة مراجعة العيادات المتخصصة، والأخذ بالاحتياطات اللازمة.
وهكذا تكرر المنظمات الصحية الدولية اجراءاتها في مواجهة الأمراض الجنسية، وأخطرها الأيدز، إذ لم تقم بحملات توعية تنصح بعدم ممارسة اللواط والسحاق والجنس خارج الزواج أو مع الحيوانات، وإنما اكتفت باستخدام موانع الحمل والتلامس والكشف الطبي، وحثت الحكومات على توفير الرعاية الصحية للمصابين.
مظلة الحريات
كل هذا يأتي تحت مظلة الحريات وحقوق الانسان، ولكن هذه المظلة لا تتسع لرأي معارضي هذه التوجهات وأسلوب طرحها وفرضها. ولا تحمي حقوق المؤمنين بالفطرة البشرية والأديان السماوية والموروثات الثقافية. وإذا كانت الديمقراطية الغربية تقوم على رأي الأغلبية، فلماذا تفرض على الجميع رأي الأقلية؟ وإذا كان المشرعون يؤمنون بحق الاختيار والتنوع الفكري، فلماذا يحاربون المحافظين والمتدينين ويقمعون رأيهم في الدفاع عن معتقداتهم وقيمهم؟ وإذا كان التبشير بالأديان والأخلاق والقيم الانسانية اصبح ممنوعا بعذر السماح بحرية التفكير والاختيار، فلما يُسمح بكل هذا الضجيج والترويج والتشويش لحركة ميم؟
الغرب في حالة تحول وانتقال من مرحلة السيطرة بالقوة الخشنة الى الهيمنة بالقوة الناعمة. واليسار الراديكالي و”النيو ليبرالي” الحاكم اليوم في بعض أكبر دوله، استولى على نخبة وسائل التعليم والإعلام والسينما والمسرح والشركات ذات التأثير الكوني العابر للحدود العرقية والدينية والثقافية. ومهمته الأولى تذويب المجتمعات المحافظة في الوعاء التحرري الجديد بلا هوية أو مرجعية دينية أو ثقافية أو مجتمعية أو حتى أسرية. وفي المرحلة القادمة سيعمل على السيطرة الكاملة على العقول والقلوب وإدارة العالم من منصة سياسية وفكرية واحدة، ملتزمة بمبادئ “لا أخلاقية” موحدة، يديرها المستعمر الجديد.
حرب على الحرب
يبدو أن العدالة عند حملة الشعارات التحررية انتقائية ومنحازة، وأن العالم “الأول” ينهار كما سقطت الحضارة الإغريقية والرومانية بعد انهيارها أخلاقيا، وتحررها جنسيا، وشرعنة الشذوذ وخروجها على القيم الدينية والأخلاقية والفطرية. وأن راية القيم والأخلاق انتقلت من الغرب المنحل الى الشرق المحافظ.
وأن مشروع اليسار الراديكالي والليبرالي الجديد بدأ مرحلة التذويب الكامل للهوية البشرية والتغييب الشامل للمرجعيات الدينية والفطرية، بإستخدام أدوات القوة الناعمة. وأن تركيزه في المرحلة القادمة على الشرق المحافظ، بالتدخل المباشر وغير المباشر. وبالاستعانة بالحكومات الموالية والمنظمات الدولية والجماعات الحقوقية.
وأن علينا، معشر المحافظين، شرقا وغربا، شعوبا وحكوماتا، ومنظومات دينية وثقافية ومجتمعية، أن نتحد بوجه هذه الحملات، برفض الإملاءات وسن القوانين ومقاطعة وسائل الإعلام التقليدي والجديد التي تحاول اختراق مجتعاتنا ببث سمومها وأفكارها، وتطبيع انحلالها وشذوذها. فهذه دول عريقة، شرقية وغربية، تقاوم هذا المد بسن القوانين وتعديل الدساتير، كما فعلت روسيا والصين وهنغاريا التي احتفل فيكتور أوربان، رئيس وزرائها الأسبق، ورئيس حزب “الاتحاد المدني المجري”، بإعلان التعديلات الجديدة لحماية الأسرة والاخلاق، وخاطب اعداء الفطرة بعبارة “أتركوا اطفالنا وشانهم. نقطة على السطر. انتهى النقاش”.
هذه حرب على الفطرة اعلنت علينا، وليس أمامنا بد من مواجهتها والانتصار عليها، دفاعا عن قيمنا، وحماية لمجتمعاتنا، وانتصارا لاستقلالنا وسيادتنا، ودفاعا عن أجيالنا القادمة.
* استاذ بجامعة الفيصل