– عندما نقرأ رواية ما ونحس كما لو أننا محمولون على أجنحة موسيقى ملهمة.. تحّلق بنا الكلمات والجمل والأحداث المسرودة إلى الأعالي ، مانحة إيانا الخفة ، دفء الروح ، الشعور بالانسجام ، وفيضا من المسرات. وأظن أن السبب الأهم في هذا هو جمال الإيقاع في متن الرواية ، ودقته وسحره (1) وفي رواية – أحببتك أكثر مما ينبغي – وهي الأولى للكاتبة ، تكشف الحقيقة والزيف في علاقة الرجل بالمرأة ، وتمتاز أثير عبد الله النشمي (2) بأنها شاعرة في كتاباتها النثرية ، وبالشحنة المتسمة بالسهل الممتنع التي تضفيها على طريقة سردها البسيطة ، والتي تجعلها مفعمة بالحيوية، والكاتبة تركز على الحيوية الإنسانية في شخصية بطلتها – جمانة – والتي تحاول أن لا تقمعها آراء المجتمع التقليدي الذي جاءت منه ، تبحث عن حريتها بهدوء ، ولا تجعل من نفسها مصدرا للنقد والتجريح عندما تتعرف على عبد العزيز ابن بلدها الذي يدرس معها في كندا ، وأثناء دراستهما تتطور علاقتهما حتى يقعَا في حب بعضهما البعض. والكاتبة تُروى القصّة من منظور ” جمانة ” التي عشقت عزيز فتاهت بين حبها من جهة ، وغيرتها القاتلة من جهة ثانية ، قصة حب بدأت في كندا وقضت نحبها في السعودية ، وكأن المكان بإيقاعه وما يعتوره من إشكالات له دوره في هذه العلاقة ، خاصة وأن الفروق فادحة بين المجتمعين ، مجتمع قيّمي منغلق ، وأخر متحرر ، وهو الإشكالية الأهم في موضوع الرواية كلها ، وهو ما سيتعرف عليه القارئ – ضمنيا – ونحن نقرأ الرواية هذه القراءة الإيقاعية .
الحوار وبناء الرواية
- تدير الكاتبة أثير عبد الله النشمي أحداث روايتها ” أحببتك أكثر مما ينبغي ” بالحوار الإيقاعي ان صح التعبير ، وهو الذي بشّكل البنية الأساسية للرواية ، وسيجده القارئ قادرًا على مدّه بمشاعر الشخصية وإيقاع لغتها وعلاقتها بالأخر، كذلك ردود أفعال الشخصيات ، فضلا عن تسربله بالوصف ، للدرجة التي يُظهر فيه لغة الجسد ، ويجري الحوار في الرواية عفو الاستعمال والتداول دون أن تغفل الراوية واقع المجتمع العربي وخاصة بعد الطفرة النفطيّة ( السعودية )، وبما أننا نتحدث عن رواية تعتمد على الحوار ، لهذا يمكن أن تطلق على تلك الرواية التي تشتمل على أصوات متعددة ووجهات نظر مختلفة ولغات ولهجات وأساليب وأجناس خطابية بأنها رواية حوارية ، ومعلوم أن الحواريّة هي منهج للرواية أسّسه ميخائيل بختين غير أنّ الدّارسين لهذا المصطلح أغلبهم لم يتيقّن إلى كيفية تطبيق مظاهر الحواريّة على النص الرّوائي ولم يتطرّق إلى الآليات التي تحدّد ممارسته ، وهذا النوع من الرواية – كما أشرنا – يناقض الرواية المونولوجيّة ، وفيما نزعمه أن الحوارية في الرواية قائمة على مستويين اثنين: الرواية بوصفها خطابا ، والرواية بوصفها نصّا ، والكاتبة أثير عبد الله النشمي تخلط بين النوعين ، أي بين الرواية التي تتعدد فيها الأصوات المتحاورة ، أو تلك التي تتعدد فيها وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الإيديولوجية. أي أنها رواية حوارية تعددية ، وأيضا نجدنا مع رواية لم تتحرر من سلطة الراوي المطلق الذي تستخدمه الكاتبة كمونولوج ، بحيث نشعر أن الكاتبة لم تتخلص من أحادية المنظور واللغة والأسلوب ، الكاتبة إذن اعتمدت على طرق عدة في بناء روايتها ونقل أحداثها ، رغم أنها تجربتها الأولى في كتابة الرواية كما أشرنا آنفا إلا أنها اتكأت بشكل كبير على السرد الحواري أو الحوار المسرود – أي الحوار الداخلي والخارجي – بهدف الإخبار والتفسير والتشويق ونقل الأحداث والتعبير عن المشاعر ، والملاحظ أن الرؤية التي هيمنت في الرواية هي الرؤية من خلف على اعتبار إلمام الساردة بكل التفاصيل والجزئيات ، سواء ما تعلق بالزمان أو المكان أو النفسيات أو الأفكار، ما يعني أن الساردة جاءت متوارية في أحايين ، وسافرة في أحايين أخرى ، أي أن الكاتبة أحيانا تحاور نفسها ، وهو ما يعكس واقعا نفسيا متأزما للبطلة التي تتوحد معها الراوية ، وهو ما اسهم في الكشف عن مواقف الشخصيات وأفكارها وقناعاتها، كما خفف من رتابة السرد من خلال تخلص الشخصيات من سلطة الساردة المتحكمة في كل شيء ، ومن سالف القول ، أقول أن البحث عن الإيقاع في رواية كهذه ، غالبا سيكون في الحوار .. الحوار الدرامي ، وآليات التعبير الروائي الذي يجب أن تظهر فيه جماليات التشكيل الروائي ، وبقدر انتظام الإيقاع وتناغمه بقدر ما تكون الرواية حقيقية ، كاملة الأوصاف في منطقها وقدرات كاتبتها ، التي تنبئ عن وجودها في صيغ منها ..
- ما هو ذاتي :
بوصفها الساردة للحكاية الفاعلة في حركة الرواية وهو ما يجده القارئ في المواقف وكيفية معالجتها ومدى توحّده معها وهو الغالب في بناء الرواية كلها ، كما هو الحال في حدث مرض – هيفاء – والتي لا يحبها عزيز ولا تحبه ، وجمانة تطلب من عزيز بعد منتصف الليل أن يأتي بمسكن لهيفاء ، والكاتبة تدير الحوار متحدثة عن نفسها وعن عزيز ، فتقول :
اتصلت بك : عزيز .. استيقظ
أجبتني بصوت ثقيل : جمانة .. ما الأمر ؟
هل تأتي لي بمسكن ؟
الآن ..!
نعم ، الآن ..
سلامتك يا وجع قلبي .. مما تعانين ؟
لست أنا المريضة ..
من المريض إذن ؟
أجبتك بتردد : أ مممم .. هيفاء .. هيفاء مريضة ..
أحسن !
حبيبي حرام عليك ، المسكينة مريضة
لا تخشي عليها .. ليست إلا جنيّة ..
حبيبي أرجوك
- وهنا تقفز الكاتبة فوق كل شيء ، ولا نعرف كيف وصل عزيز إليها ، فقط هي تُعلِمنا بأن عزيز وصل ومعه الدواء ، وتكمل نصها الروائي بهذه الطريقة التي يبدو فيها الشكل الفني عفويا إلى حد كبير ، فلا مكان ، ولا حركة لعزيز يمكننا رصدها في ذهابه إليها بالدواء ..
- وما هو موضوعي :
وهو نسبي جدا ، وفيه تغيب الراوية كما لو كانت متفرجة لا تدرك الطاقة التي دبّت في أحداث الرواية وكأنها انفلتت عنها ، وباتت الرواية تحكي نفسها ، ولو كان ذلك بلسان الراوية ـ بحيث يصبح الخطاب الروائي هو ذاته النص ، تقول الكاتبة :
” قهرني هذا الحب، قهرني لدرجة أنني لم أعد أفكر في شيء غيره، أحببتك إلى درجة أنك كنت كل أحلامي.. لم أُكن بحاجة لحلم آخر.. كنت الحلم الكبير، العظيم، الشهي.. المطمئن.. الذي لا يضاهيه في سموه ورفعته حلم.. أقاومك بضراوة، أقاوم تخليك عني بعنف أحياناً وبضعف أحياناً أخرى، أقاوم رغبتك في أن تتركني لأنه لا قُدرة لي على أن أتقبّل تركك إياي.. أصرخ في وجهك حيناً، وأبكي أمامك حيناً آخر ومخالب الذل تنهش أعماقي ”
مسرحة الرواية وإيقاع شخصياتها
- إذا كانت الرواية تصف وتسرد وتعمق صلتها بالأشياء ، فالمسرحية تعتمد على الصراع الدرامي من خلال الحوار ، وهو ما يعني أن الكاتبة لديها رغبة في الكلام ، أي الرغبة في الحكي ، وهي تركض في متاهة الحكاية ، فيما تعرفه وما لا تعرفه يمر من خلال لعبها بالكلمات وهو ما يأخذها إلى بنية حوارية وانطباعية مباشرة ، ويبدو أن هذه الحوارية – كبداية – تمثل البكارة الأولى للكتابة الروائية دون ادعاء أو حذلقة ، وكأنها تحكي قصتها ، ولهذا يجيء الحوار المتدفق يغمر الكاتبة والقارئ ، ولهذا جاءت الرواية نسخة بالمعنى الحرفي للحالة الشعورية التي عليها الكاتبة أو الراوية أو ” جمانة ” بطلة الرواية ، والتي تجيء حكايتها وكأنها سيرة ذاتية عاطفية مشبوبة لفتاة تحب لأول مرة ، ولهذا لا تتيح هذه الطريقة أن يكون للنص الروائي أية إمكانية للتأويل ، غير اعترافات الفتاة وانطباعيتها ، بعيدا عن مشروطية الرواية ذاتها ، وهذا لا يعني أن الرواية ليست رواية بالمعنى الفني ، ولكن هناك عفوية ، أو إيقاع طبيعي تنتهجة الكاتبة فهي مثلا تنقل لنا عبر المنولوج الداخلي إيقاع فتاتها المحبة ، تنقل أحاسيسها وأفكارها والتناقضات التي تعيشها ، تقول :
” تظنُّ بأنني قادرة على أن أترك كل شيء خلفي وأن أمضي قُدماً.. لكنني ما زلتُ معلقة ، ما زلت أتكئ على جدارك الضبابي بانتظار أن تنزل سلالم النور إليَّ من حيث لا أحتسب ، سلالم ترفعني إلى حيث لا أدري وتنتشلني من كل هذه الُلجَّة ” ذات واعية ومدركة لتلاعب الطرف الآخر بها ”
فيما نجد إيقاع شخصية عزيز إيقاع متذبذب وعلى النقيض من جمانة ويظهر هذا في قوله لجمانة ” بإمكاني أن أحبك وأن أقيم عشرات العلاقات مع غيرك لأنني رجل ، لكنك لا تستطيعين فعل ذلك لأنك فتاة ” هذا الإيقاع الذكوري يبين عن شخصية تفرّق بين الرجل والمرأة ، ويرى أن للرجل ما ليس للمرأة من حقوق ، ورغم هذا نجد إيقاع ” جمانة ” غريبا فهي تحب عزيز وتعلم أنه يخونها ، لدرجة تصور هذا المعنى هكذا ” متعبة أنا يا عزيز ، أشعر بك كفيروس شرس يتصاعد في أنفاسي ، يصول ويجول ويقال في خلاياي المقاومة ، لا أدري كيف أصبحت مخيفا إلى هذا الحد ، لا أدري كيف أقحمت نفسي بهذه العلاقة ! لطالما شهرت معك بأنني منافسة ضارية ، أنا بطبعي امرأة لا ترضى أن يؤخذ منها شيء ” وتقول أيضا ” يؤلمني أن تجعل مني امرأة شرسة مع غيرك ، مطواعة هشة معك ”
إيقاعات الحوار المتباينة
- معلوم أن بنية السرد إذا هيمن عليها أسلوب المفارقة ، باعتباره المفارقة الرئيسية التي نكمن في حركة الشخصيات المتأرجحة بين القيود والتحرر ، فالصراع قائم بين قيم الحضارة وقيم البداوة ، ولعل تلك المفلرقة المركزية هي التي شكلت بنية السرد على امتداد الرواية كلها ( * ) وهذه البنية يهيمن عليها ( عنصران ) الأول ك وهو المفارقة كما أشرنا ، وهي تلعب دورا كالذي يلعبه المجاز في الشعر ، والشعرية هنا تجسدت في وحدات السرد – في شكل غيقاعية تعبر عن الاحداث بين العلو والانخفاض وقد أحدث هذا التدفق الإيقاعي نوعا من الفاعلية الجمالية ، والكاتبة تبتني مشاهد روايتها عبر حوار يتوالد ةيرسم للرواية امتداداتها وتحولات شخصياتها بل ان الحوار يعصف بالحدود الفاصلة بين الحوار والسرد ، تقول الكاتبة : “أحببتك أكثر مما ينبغي، وأحببتني أقل مما أستحق !”
بهذا التعبير الإيقاعي بعد مدخل الرواية بقليل تبدأ الكاتبة السعودية روايتها بهذه الجملة التقريرية والتي تدل على بداية و نهاية الرواية- قصة الحب – بين عزيز وجمانة ، وهذه الثنائية – ( أكثر مما ينبغي ، أقل مما استحق – ) تبدو كما لو كانت إيقاعا صوتيا أو نغمة تقابلها أخرى لها ذات الطابع الإيقاعي النفسي في كل حوارات الرواية ، وكما هو واضح من هاتين الجملتين ، أنهما تدلان على زمن العلاقة التي ربطت بين جمانة وعزيز ، ويبدو أن هذه الضدية سردا وحوارا هي طريقة الكاتبة في بناء الرواية تقول أيضا :
” طوال حياتي لم أبكِ بحرقة إلا بسببك ، ولم أضحك من أعماقي إلا معك ”
تلك هي امتدادات الحوار ، وتلك هي التواءاته وتعرجاته التي تجري بشكل عفوي ، وهو ذاته قانون بناء الرواية وكيفيات انفتاحها على عالم السيرة ، في شكل روائي جميل وسهل ، ولا شك يشهد على ذلك تعدد طبعات الرواية ، للدلالة على أن هذه الكتابة ابنة عصرها ..
”ما أصعب أن تنادي امرأة باسم أخرى على الرغم من أنها تكاد تنادي كل رجال الدنيا باسمك” مصلوب أنت في قلبي.. فرجُلُ مثلك لا يموت بتقليدية، رجل مثلك يظل على رؤوس الأشهاد.. لا يُنسى ولا يرحل ولا يموت كباقي البشر ”
———————————– ———————-
- ثبت ومراجع
1-آفاق :إيقاع النص السردي- جريدة المدى اليومية ، ملحق أوراق: 07-05-2011 – سعد محمد رحيم )
2-ولدت أثير عبد الله النشمي في حزيران/يونيو 1984 في العاصمة السعودية الرياض وهناك تلقت تعليمها وتكوينها. عاشت رفقة أسرتها الصغيرة المكوّنة من والديها وأخٍ وحيد ثمّ أربع أخوات. تميزت أثير بثقافتها العالية وبأسلوبها الأدبي الفريد في رواياتها التي تتحدث عن معاني الصداقة والحب والعاطفة.
3- السمات الأسلوبية في الرواية – عزازي علي عزازي – مجلة نزوى العدد 16 اكتوبر 1998
4-الرواية ( أحببتك أكثر مما ينبغي ) الطبعة الأولى 2009 – الطبعة الثالثة والعشرون 2019
أسجل أولا تقديري للأستاذ عبد الله الزهراني رئيس تحرير صحيفة مكة الإليكترونية
وأود الإشارة إلى أن هذه القراءة النقدية عن الكاتبة أثير عبد الله النشمي وروايتها أحببتك أكثر مما ينبغي ، هي ضمن كتاب لي عن الإيقاع في الرواية العربية ،
شكرا على النش ، تحياتي