تمرّد عباس محمود العقاد بهمته وطموحه على الظروف القاسية التي عاشها، باحثًا عن نفسه وما أراد لها، حتى أصبح من رموز الثقافة في تاريخ الأمة العربية، وتحولت كتبه إلى مدرسة لكل أديب أراد أن يسير على خطى الفكر والمعرفة.
ولم تكن زيارة عباس محمود العقاد إلى الحجاز مجرد رحلة للمشاعر المقدسة، بل قدّم صورة تجمع بين روحانية المسلم الباحث عن الخشوع، والإنسان المتأمل الذي شغله الطواف وحمام البيت.
عند الكعبة وحمام البيت
يقول العقاد، في مذكراته التي جرى نشرها في كتابه “مع عاهل الجزيرة العربية”، ليشرح رحلة العقاد إلي المملكة العربية السعودية، وما سجله بقلمه العملاق عن انطباعات نفسه بعد مقابلة العاهل الراحل جلالة الملك عبد العزيز بن سعود وما رآه وسمعه عن صراحته ودوام سهره على شئون شعبه وشئون ضيوفه.
يقول العقاد: مكان عند الكعبة كان له في قلوبنا الخشوع والرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد؛ ذلك هو موقف الدعاء الذي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يختار الوقوف فيه كلما طاف بالكعبة ودعا إلى الله. أنت هنا ولا ريب في مقام قام فيه ذلك الرسول الكريم، الإنسان الذي يقترن اسمه في صلوات الألوف بعد الألوف باسم خالق الكون العظيم. أنت هنا تقف حيث وقف، وتدعو حيث دعا، وتنظر حيث نظر، وتحوم بنفسك حيث حام في اليقظة لا في المنام. قيل لنا: هنا يستجاب الدعاء.
ويسترسل العقاد حديثه: منظر آخر أخذني بجماله في جوار البيت الحرام، وهو منظر الحمام الآمن الوادع في ذلك المقام، لا يخشى ولا يفزع، بل يظل طوال نهاره في طواف على الأرض وطواف في الهواء. وأعجب ما سمعت ورأيت أنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات. وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع، تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره، فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور، أدب الناس في هذا المقام المهيب نعرف سره ونعرف مصدر الوحي منه إلى القلوب الآدمية.
عبقرية جلالة الملك عبدالعزيز، رحمه الله
وتأثر عباس محمود العقاد بشخصية الملك عبد العزيز، رحمه الله، وقد قدم إلى الحجاز مطلع ضمن بعثة الشرف المصرية القادمة لمرافقة جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله في زيارته الرسمية لمصر، وسجل العقاد خلال زيارته العديد من المشاهدات والانطباعات، فلمس جوانب من عبقريته الفطرية التي أجمع مؤرخ شخصيات هذا العصر على أنها من أعظم العبقريات السياسية والإصلاحية التى ظهرت فيه، وقد كان في الوفد المرافق له من الحجاز على متن الباخرة الملكية على ما جرت عادة المراسيم في ذلك الزمان.
وكان السعوديون يستقبلون المصريين أولا ويكرمونهم ويهيئون لهم العمرة إلى البيت الحرام ثم يصطحبونهم إلى أرض الكنانة عبر البحر الأحمر.
وذكر العقاد عن عاهل الجزيرة العربية ما عُهد من الحفاوة الرسمية في هذه المناسبات من سَوْقٍ للمديح والثناء، ولكنه لم يكن مبعوثا دبلوماسيا في كلماته وحسب، بل كان أديبًا، يسوق الشعر ويستشهد بالمرويات الأدبية في مناسباتها الموافقة لذكريات تلك الزيارة، وكان مؤرخا يستذكر أخبار التاريخ، فكان الكتاب أشبه بحديث من أحاديث صالونه الشهير، أو بفصل من فصول سِيَرِهِ التي أحببناها.
فكان مما قاله: (إذا عرفتَ الملك عبدالعزيز ثلاثة أيام، فكأنك قد عرفته ثلاث سنوات، أو لازمته في أطول الأوقات، لأن هذا الرجل العظيم مطبوع على الصراحة، ووضوح المزاج، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة، وأول ما يدهشك من منظره قوة النفس والعقل والحس على السواء، وهو الآن يناهز السابعة والستين، ويحتفظ بقوة عضلية لا تتوفر لكثيرين في سن العشرين أو الثلاثين).
محدث طلق الحديث مطبوع على الصراحة
ويكمل العقاد حديثه عن جلالة الملك عبد العزيز: (مواعيده في النوم واليقظة منتظمة في جميع المواسم والأوقات، فيستيقظ قبل الفجر، ويقضي نحو ساعة في التهجد وقراءة القرآن، ويصلي الفجر، ثم يستقبل بعض خاصته لإطلاعه على مهام الأمور التي تتطلب التعجيل، ثم يغفي قليلا ويخرج للناس، ومن عاداته بعد العشاء أن يُصغي إلى فصول من كتب التفسير والحديث، أو كتب الأدب والتاريخ، ثم تُتلى عليه أخبار الإذاعة التي يتلقاها الموظف المنوط بها من أهم المحطات العربية والشرقية، فيُعقب عليها أحيانا تعقيبا موجزا، يدل على بُعد النظر، وتتبع الأحوال السياسية في مشارق الأرض ومغاربها).
يقول العقاد في كتابه عن الزيارة: “الملك عبدالعزيز محدث طلق الحديث، يرسل أحاديثه بغير كلفة، ويُعرب عن رأيه الصراح بغير مداراة. قص علينا كيف استرد الرياض، وكيف ودعه والده، سأله أحدهم: ماذا كان رأي والدكم بعد فتح الرياض؟ فابتسم وقد بدا على وجهه التأثر والحنان، وقال: رحمة الله على والدي، لقد كان يعاملني: كأني أنا الوالد وهو الولد، وعلى قدر توقيره وحنانه لذكرى والده، رأينا آيات العطف والمحبة على ملامح وجهه كلما نظر إلى أصحاب السمو أبنائه النجباء، وهو يسميهم «ربعه»، ويحب أن يراهم أمامه، وجلالته عظيم العناية باستطلاع رأي شعبه، ولكنه يتكلم عن المسائل الكبرى بسليقة ديمقراطية، يستمدها من أصول الدين، ومن البصيرة النيرة.
ويقول الدكتور زاهي حواس: وزير الدولة لشئون الآثار المصرية الأسبق، إن الملك عبدالعزيز اسمه منقوش بتاريخ المملكة، ويتحدث عنه الناس بعشق شديد. وجرى العثور على مخطوطة تظهر عشق الملك عبد العزيز لمصر والمصريين، وتسمى “الرحلة الملكية السعودية إلى مصر”، وتسجل الزيارة المهمة والتاريخية التي قام بها الملك إلى مصر. وقد جاءت هذه المخطوطة عندما أمر الأمير ناصر بن عبد العزيز أمير الرياض بأن يقوم عبد الحميد مشخص بكتابة هذه اليوميات عام 1365هـ، واستطاع أن يجمع هذه المعلومات من خلال دراسة دقيقة من قصاصات الصحف والمجلات التي تحدثت عن هذه الزيارة.
ويوضح حواس: تقع المخطوطة في نحو 270 ورقة ومحفوظة الآن في مكتبة جامعة الملك سعود لتصبح وثيقة مهمة جداً في الحب الذي يجمع بين الشعبين السعودي والمصري، وكيف أن ملكي السعودية ومصر في ذلك الوقت كانت لهما اليد الأولى في استمرار هذا الحب في كل المشاهد التي نراها بين البلدين.
وأضاف الدكتور زاهي حواس، أن المخطوطة تبدأ بسفر بعثة الشرف المصرية من السويس إلى جدة. وكان من ضمن أعضاء البعثة عملاق الأدب الأستاذ عباس محمود العقاد. واستقبلهم الملك عبد العزيز وأخوه عبد الله. وبعد ذلك، سار الملك على السفينة المحروسة مع الوفدين المصري والسعودي.
وتحدثنا المخطوطة عن حياة الملك عبد العزيز داخل المحروسة. ولقد ألقى الأستاذ العقاد قصيدة مدح أمام الملك. وبعد ذلك، وصلت السفينة إلى السويس وكان في استقبالهم الملك فاروق.
وقد استقل الملكان القطار إلى القاهرة، وشاهدا الأعلام والأفراح والزينة في كل مكان تستقبل العاهل السعودي. واستقبل الشعب الملك عبد العزيز استقبالاً ليس له مثيل، وقام أهالي القاهرة بالتبرع بمبلغ نصف مليون جنيه لعمل الاحتفالات والاستقبالات والزينة في كل مكان بالقاهرة. أما الموكب الملكي فقد تحدثت عنه الصحف، وكانت أصوات الناس تجلجل في الشوارع مرحبة بالملك. وقد نزل الملك في قصر الزعفران.