سنعود قليلاً للوراء..
لنتذكّر بعض الملاحم التربوية والتعليمية التي طواها الزمانُ، وأسَرَها الكتمانُ..
عندما كُنا ندرس في المرحلة الثانوية..
كُنّا نتشوّف لكلمات مدير المدرسة في الطابور الصباحي، وبعد صلاة الظهر؛
نستمع وننصت
نتابع ونركز
ونستجيب ونبادر
المعلم -غالباً- يكون تركيزه منصبًّا على المنهج ومتابعة الواجبات والاختبارات وما يتعلق بالعملية التعليمية
لكن مدير المدرسة كان يُوجّهنا نحو ما يُنير مداركنا وتُوجّه تفكيرنا بعد المرحلة الثانوية، ربما غفلنا عنها، نسمع منه التوجيه والنصيحة، ونرى فيه الحرص والشفقة.
أذكُر أنه في أحد الأيام امتطى منصة المدرسة، وأمسك بـ (المايك) وحدّثنا كعادته.. ولمح أحدَ زملائنا في هيئة غير مناسبة، وكُنا نتوقّع منه توبيخاً له وتقريعاً، لكنّ شيئاً من ذلك لم يكن، بل ولم يُلقِ للأمر بالاً، واصل حديثه، ثم نزل من المنصة، فقلنا لعله يستدعيه بعد الطابور، أو نهاية الحصة..
ومر العام ولم نشاهد أو نسمع استدعاءً له من قِبَل المدير، والغريب أنّ زميلنا هذا تغيّر للأفضل، بل وغدَا من أفضل الطلاب اجتهاداً وانتظاماً وسلوكاً، وإلى هذا اليوم لم نعرف كيف عالج هذا المدير هذا الموقفَ دون أن نسمع جَلبَةً، وقد رأيْنا استجابةً!
وكان من عادة هذا المدير، أن يجمع دفاترنا وأعمالنا الكتابية يوماً في الأسبوع، يطّلع عليها، وكنا نتشوّف لذلك اليوم؛ لنقرأ عباراته التحفيزية لنا، وتوشيحاته الأدبية..
كنا نتمنى أن يستدعينا إليه لحجرة الإدارة؛ لنراه يُكرمنا، يُضاحكنا، يسألنا حتى عن الوالدين والإخوة، وكأنه قريبٌ لنا..
وكان لنا معه أشبه بالمجلس الاستشاري الطلابي، نجتمع فيه معه، يحاورنا، ويسمع منا، ويناقشنا فيما يتعلق بالحصص والمنهج والمعلمين، وهل نلقى منهم عدم تعاون أو قسوة، وكان دائماً ما يسألنا عن المقصف المدرسي، ماذا فيه، ورأيُنا حول البضاعة الموجودة، ويسألنا عن الأسعار..
أذكُر أنه إذا تحدّث عن المقصف والأسعار، كان يُوطّن بكلمة كثيراً ما كان يُكرّرها لنا:
اعتبروني أخاكم الكبير، إذا احتجتم (فُسحةً) -المصروف اليومي للإفطار- فلا تترددوا في المرور عليّ، وكان يقول وهو يضحك: اعتبروها سَلفاً، وأعِيدُوها لي إذا توظّفتم..
ومَرّتِ السنواتُ، وانتهتْ تلك الفترة الجميلة من مراحل تعليمنا
نَسِينَا كثيراً من الأشياء، وتناسينا أكثر وأكثر.. لكنّ اسمَ هذا المدير لازال محفوظاً، وجميلَه معنا حيًّا، وحُسن صنيعه إلينا، وتعامله وحرصه لا زال حاضراً في أذهاننا، ندعو له، ونذكُره بخير..
مِن عجيب أمرِ الإنسان أن يَحِنّ لأيامٍ كان وقتها يتمنّى أن يُغمِض عينيه ثم يفتحها وقد ولّتْ وانقضتْ، حتى إذا ما جاوزها جاءه الحنينُ إليها، وكأنّه يريد اجتثاثه إليها.. والأعجب أن شخصاً واحداً يُرغّبك في أن تَعود إليها، وتعيش فيها..
تلك الحالة، والفترة الزمنية حَرِيٌّ بنا أن نتفكّر فيها مَلِيًّا، ولا نَدَع لعقارب الساعة أن تجتازها سريعاً، فثمة أحداث ستعصف بالعمر، وترسم ملامحه، وتُوجّه اهتماماته إليها راغباً كان أو راهباً..
المرحلة الثانوية من أكثر المراحل الدراسية بل والعمرية تأثيراً في حياة الطالب، ومن أكثرها تأثّراً بما ومَن حوله..
فكونوا أيها المديرون والمديرات كهذا المدير، حريصاً رحيماً، نصوحاً كريماً..
جميل جدا فعل هذا المدير بل المربي الفاضل والاجمل هذه الذاكرة البارة بأهل الفضل والثناء عليهم.. استاذ يحيى دائما ما نجد في مقالاتك تلك الذكريات الجميلة والمواقف التربوية فغفر الله لك وأحسن إليك.
تقبل مروري / محب المعيدي