قال صاحبي: تُعاني المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، من علة أفول القدوات، واستبدالها بأخرى مزيفة، لا تمتلك تاريخًا مرصعًا بالإنجازات، ولا مستقبلًا واعدًا بالمنجزات، وإنما حاضرًا متكئًا على التفاهات، التي لاقت رواجًا لا أقول عند الراشدين، لكن عند الصغار والكبار من الجنسين، وبنظرة خالية من التفاؤل والتشاؤم ولكني أحسبها واقعية، بأن غياب وتغييب القدوات الحقيقية مشروع هادم بامتياز، وأن النتيجة الحتمية المنتظرة هي نشوء جيل ضعيف في تفكيره واهتماماته، من المسؤول، وما المطلوب؟
صناعة القدوات وإبرازها من أخطر الصناعات لارتباطها بماضي وحاضر ومستقبل الأمم، فهي إما أن ترتقي بها لأعلى قمم المجد، أو تقودها لأسفل دركات الهاوية، عندما تنحرف هذه الصناعة عن مسارها الصحيح في عمليات التصنيع القيمي والأخلاقي، وفي الحديث الشريف ” إنَّما النَّاسُ كإبلٍ مائةٍ، لا تَكادُ تجدُ فيها راحِلةً”، وما روي عن سيدي بن الخطاب، عندما كان في لحظة تجلي مع رفاقه، وتمنى بعضهم الذهب والفضة، وتمنى آخرون الإبل والخيل، مع عدم إغفالهم جانب الصدقة والإحسان فيما تمنوه، عندها تمنى القيمة والقامة والقدوة الحسنة “ابن الخطاب” أن لديه رِجَالًا مِثل أبي عبيدة بن الجراح، وحذيفة بن اليمان، وغيرهما من رجالات الصحابة -رضوان الله عليهم-، ليستعملهم في الجهاد وفي مصالح المسلمين.
وإذا أردنا تقدمًا حقيقيًا لمجتمعنا فعلى مؤسسات صناعة الوعي أن تضع موضوع صناعة القدوة الحسنة على رأس أولوياتها فهي التي تبنى وتعمر وتدافع وتخطط من أجل رفعة وطنها، وتحصن الأجيال من التلوث الفكري والخلقي، فالأسرة هي المحطة الأولى لاستقبال النشء، وتربيته على القيم الحسنة، والإيمان بهويته القيمية، وتحصينه من كل ما يتعارض معها، أو يهدمها، قبل أن تستقبله المؤثرات الأخرى والتي سلبياتها أكثر من إيجابياتها؛ الإعلام، والأجهزة الإلكترونية، بتطبيقاتها المتعددة، والعمالة المنزلية، والشارع، والمدرسة والأقران، لذا فالإعلام والتعليم بالدرجة الأولى مطالبان بتقديم نماذج حسنة، وتعليم القيم والأخلاقيات والتربية بالنموذج عوضًا عن التوجيه المباشر.
فالحاجة ملحة وبشكل كبير جدًا لتكون لدينا استراتيجيات واضحة لتعزيز قيم المواطنة الحقة، والعادات والتقاليد المتوارثة، والقيم الإسلامية الثابتة، والثقافة السعودية الأصيلة ولعل ما يدفعنا للسرعة القصوى في هذا المجال أنه من أولويات رؤيتنا وأحد أضلاعها هو صناعة مجتمع حيوي، كيف؟
قدر لي قبل عدة سنوات أن أقدم دورات في تطوير الذات، وكان المتدربون كأغلب الناس في المنطقة العربية والإسلامية يطربون وتزاد قناعاتهم عند الاستشهاد بنماذج غربية تغلبت على المستحيل وصنعت إنجازًا شخصيًا أو وطنيًا، وكانت الشخصيات العربية غائبة أو مغيبة عن الاستشهاد والإبراز وبالتالي غاب الاقتداء بها، واتخاذها أسوة حسنة، كما غابت سيرتها العطرة عن الذكر والذاكرة، فكل أمة تزخر بالنماذج الفريدة التي تفخر بها وتفاخر.
سيرة الملك عبد العزيز -رحمه الله- منجم من القصص السينمائية الحقيقية، بما تحمله من قيم وصفات يمكن الانطلاق منها في صناعة النموذج السعودي، من خلال تحويلها لأفلام قصيرة ووثائقية، تتحدث عن صفة أو أكثر من صفات الملك المؤسس، فهي قصص محفزة على النجاح، والتغلب على المشقات، والتفكير خارج الصندوق، وغيرها من القيم التي يعمل الإعلام والتعليم والأسرة على غرسها في الأبناء، فنظرية الغرس الثقافي في أبسط أشكالها تشير إلى أن التعرض للتلفزيون يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم وقيم مقصودة لدى المشاهدين، فالإعلام والتعليم والمنزل وسائل للتنشئة الاجتماعية لجميع البشر.
تميز الملك عبد العزيز بالكثير من الصفات الحسنة، التي كانت سببًا لكسب محبة قلوب الكثيرين من السعوديين، وغيرهم ممن عرفه، وقد كان قُدوة حسنة يُحتذى بها، فقد قال عنه حاج ياباني في كتابه (ياباني في مكة) بعدما قابله في مناسبة استقبال الملك عبد العزيز للحجاج في نهاية الموسم:” لدينا مثل ياباني يقول تشم الزهرة قبل أن تنبت في الشجرة” فهذا الزائر الأجنبي رأى في الملك المؤسس صفات النجاح التي يتمتع بها.
وأبهرت شخصية الملك عبد العزيز الكثير من المفكرين والمؤرخين في العالم، ومنهم المؤرخ الصيني البروفيسور “يانغ يان هونغ” الذي قال: “لقد كان الملك عبد العزيز أحد العباقرة الذين قدموا لأممهم وأوطانهم خدمات جليلة بجهودهم الجبارة، كما وصف الدكتور فون دايزل النمساوي الذي زار المملكة عام 1926م الملك عبدالعزيز – رحمه الله – “بالنابغة”، فمن ينجح في تأسيس إمبراطورية تفوق مساحتها مجموع مساحات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا معًا يحق له أن يُسمّى “نابغة”.
وهنا سوف أستعرض بعض الصفات التي اتصف بها الملك عبد العزيز -رحمه الله-، على سبيل الذكر لا الحصر، والتزم بها أبناؤه البررة من بعده، فالابن سر أبيه، ويجدر بالتعليم والإعلام والمربين غرسها في النشء، ومنها:
✓ اعتزازه بدينه.
✓ امتلاك الهدف.
✓ الإصرار على النجاح.
✓ سعة الاطلاع.
✓ العفو.
✓ الانفتاح العقلي بما لا يتعارض مع القيم والهوية.
✓ علاقته مع الزمان، يعرف متى يتحرك ومتى وأين يقف؟
✓ علاقته مع المكان؛ فلكل مكان حال.
✓ علاقته مع الإنسان على اختلاف مواقفهم واتجاهاتهم.
✓ علاقته مع الأحداث.
كما أن للمرأة السعودية الرائدة حضورها الكبير في تاريخنا، والتي يمكن منها استلهام القدوات الجديرة باحتذاء سيرتهن، ومنهن:
موضي البسام، إذا جاك ولد سمه موضي لدورها في معركة الصريف والبكيرية.
غالية البقمي، المرأة الحديدة التي قادت المعركة ضد المعتدين على بلادها.
فوزية المحيسن التي افتتحت مدرسة لتعليم البنات في منزلها في مدينة بريدة قبل التعليم النظامي، ولم تكتفِ بالتعليم التقليدي، بل علمتهن بعض المعارف الخاصة بالتمريض.
نورة الرهيط، التي حولت جزءًا من منزلها لكتاب لتعليم الفتاة بمدينة عنيزة، وهي بعمر السادسة عشرة.
قلت لصاحبي:
بلادنا ولادة للقدوات في مختلف المجالات.. أين من يبرزها ويحتفي بها، ويقدمها للأجيال؟