المقالات

الزي الرسمي: الممنوع والمسموح

لم أتفاجأ، وأنا في مراجعة طبية مهمة في أحد الصروح الطبية الهامة في وطني العظيم، بوجود طاقم طبي ماهر من الطواقم الطبية الوطنية، لم أتفاجأ، وأنا التي أعرف جيدًا قبل اختبار كورونا الذي كان أحد الشهود على نجاحنا في التصدي له بامتياز ولله الحمد، أن لدينا كفاءات علمية يشار إليها بالبنان. كما لم أتفاجأ في ذات الوقت بأن بعض الممارسين الصحيين في كامل هندامهم وأناقتهم في سياق مثل هذا، زمانًا ومكانًا. فحين يزور المريض المستشفى لا يتوقع، وهو في أضعف حالاته الصحية والنفسية، أن يقابله طبيب في كامل هندامه وأناقته.
لقد رأيت في كندا ما يثير الإعجاب من الالتزام الذي يصل إلى حد الصرامة في التعامل مع المظهر الخارجي للممارس الصحي فانتشرت لوحات وملصقات حمراء أشبه بعبارات المرور التحذيرية مدونة عبارة، لا تنسى بالنسبة لي، “هذه بيئة خالية من العطور” scent free environment” ” وحين استفسرت عن معناها علمت الموقف الصارم الذي يتبعه النظام الكندي حيال الزينة واللباس ورائحة العطر. الجميع في ذلك البلد يلتزم بقوانين اللباس، ومن لم يلتزم بذلك يكن عرضة لانتقاد وإنكار كبيرين من الجميع، وقد يؤثر عدم الالتزام بهذه القوانين الصارمة في تقييمه في البرنامج أو في التقييم السنوي. إن أول المنتقدين أو المعترضين على من يلتزم بتلك القوانين هو الطاقم الإداري المساند للقسم الطبي. تلك الثقافة شكلت لديَّ ما يشبه مراجع ثقافة مهمة أتمنى أن أراها واقعًا في القطاع الصحي في بلدي.
فعلاوة على كون الالتزام بالزي الرسمي ثقافة مهمة لأي بيئة عمل فهي تنم عن مهنية عالية تحظى بأهمية كبيرة تدفعنا إلى إثارة النقاش إلى الطاولة من جديد حول آلية تفعيل الالتزام به في القطاعات الصحية التي هي بلا شك مكانًا لارتياد كل فئات المجتمع من أجل الحصول على خدمة طبية تقوم على محتوى مهني وليس على شكل بصري ترفيهي. ومنذ البداية، أعلم أن هناك لوائح وضوابط في هذا الإطار، لكنها غير مفعلة والأمر يعود لكل ممارس في اتباع ما يراه مناسبا. والمأمول أن يُتَّخذ في المتجاوزين إجراء نظامي للتحفيز على تعزيز مهنية الممارس الصحي التي تبدأ من لباسه ومظهره المناسب لبيئة عمل صحية.
ولأني من المتحمسات والمدافعات دوما عن كل القطاعات الخدمية الوطنية وأتمنى سعودتها، فإنني أيضًا ممن ينادي بأهمية أن تكون على درجة عالية، لا، بل ومثالية من الالتزام والمهنية وهو ما لا يتحقق من دون ضوابط حازمة يتم تفعيلها في بيئة العمل فلا تتحول بيئة العمل إلى ساحة عرض للإكسسوارات وأحدث صيحات التجميل والميك اب والماركات. فعلى سبيل المثال، لا يجدر بطبيبة وممرضة أن تكون أظافرها طويلة وملونة في العيادات ومراجعة المنومين من المرضى. كما لا يجدر بالطبيب أن تفوح رائحة عطره أرجاء الممرات. وعند قيامي بمراجعة أفضل الممارسات العالمية في أمريكا الشمالية اطلعت على ميثاق اللباس في ستانفورد الذي ينص على بروتوكول صارم يوصي بالابتعاد عن المبالغة في الزينة ومنع العطور واللباس المعتدل.
أما عندما يأتي الحديث عن المبالغة في اللباس وتشكيل انطباعات غير إيجابية لدى المراجعين والمرضى، فقد اطلعت على عدد يسير من الأبحاث العلمية التي تناولت الانطباعات حول اللباس الرسمي. أحد الأبحاث المهمة في هذا السياق عنوانه “الانطباعات وتصورات الأطفال وأولياء الأمور عن ملابس أطباء الأطفال في المملكة العربية السعودية” وهو بحث منشور في العام 2016 من قبل فريق من الباحثين السعوديين. وخلاصة نتائج ذلك البحث، الذي أتمنى أن يعلق الجرس ويكون مصدر إلهام للجهات المعنية للقيام بدورها في هذا الاتجاه، هو أن التصورات عن الملابس التي يرتديها الأطباء تختلف حسب جنس الطبيب. فقد كان هناك إجماع على أن ارتداء اللباس الطبي (السكرب) أكثر احترافًا من غيره من الملابس وهو ما يجعل الطبيب ودودًا وجديرًا بالثقة بالنسبة للأطباء الذكور، وحين ترتدي الطبيبات التنانير السوداء المحافظة الطويلة مع المعطف الأبيض يُنظر إليهن بجدية وثقة. ومع ذلك، فإن ارتداء لباس الصيف والملابس التقليدية وغير المناسبة علاوة على تعزيز الاعتقاد بأنها تهدد العدوى وبالنسبة إلى الأطفال فإن هذه الملابس أكثر ترويعًا. ومع أن غالبية الآباء يعتقدون أن ارتداء معطف المختبر ضروري، فإن معظم الأطفال لم يوافقوا على ذلك. إلى ذلك، شملت الدراسة أحذية التنس التي كانت الأحذيةَ المفضلةَ لكل من الأطباء الذكور والإناث. ويخلص البحث إلى أنه يمكن اعتبار ملابس الأطباء مؤشرًا على الاحتراف الذي يمكن أن يؤثر في سمعة الطبيب لدى المريض.
خلاصة هذه الإضاءة: أن هذه الرسالة الإنسانية التي تعتبر من أقدس المهام على الإطلاق تجعل من الأطباء والممارسين الصحيين الفئة الأكثر ظهورًا وواجهة للقطاع بأكمله أمام الجمهور. الأمر الذي يحتم عليهم تحمل مسؤولية تغيير نمطية التفكير في النظرة المهنية إليهم، والعمل على التركيز على الجوهر لا المظهر ومقاومة إغراءات الرغبة الفطرية في التزين والتنمق الزائدين والحفاظ على التوازن الذي دعا إليه ديننا الحنيف بشكل واضح في شتى مجالات الحياة. قال تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً” [الفرقان:67] وقال صلى الله عليه وسلم: “كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة”

*الخُبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى