المقالات

معوقات وصول الرواية السعوديّة للعالمية

” كأنَّ الجسر الثقافي بين الشرق العربي والغرب انقطعت أواصره مع حصول الأديب المصري )نجيب محفوظ (على جائزة نوبل للأدب عام 1988م، أي ما يزيد على ثلاثة عقود. وليس سرّاً أن حُلم كل أديب عربي الوصول للعالمية، ونيل هذه الجائزة العريقة، التي بالتأكيد ستُخلّد اسم صاحبها، وستجعله نجماً ساطعاً في العالم بأسره، وستضع نتاجه الأدبي على رفوف المكتبات بجوار كُتب أهم الأدباء، وستدفع القرّاء المحبين للأدب إلى التهافت للحصول على كُتبه. ولا يخفى على من لديه دراية واسعة بدهاليز الثقافة، أن نجيب محفوظ لو لم تهتم عدد من دور النشر العربيّة، وهيئات معيّنة، بترجمة أعماله مُبكراً، لما وصلت للعالمية، ولما حظيت باهتمام القرّاء الغربيين، ولما وصلت إلى لجنة نوبل، وهذا الرأي لا يُعدُّ تقليلاً من مكانة أديبنا العظيمة، بل يؤكّد على أهمية الترجمة في إيصال الرواية العربية، والسعوديّة خاصة إلى الساحات الثقافيّة الغربيّة.
في مجتمعنا السعودي تحديداً، أصبح لدينا فئات من مختلف الأعمار، تلهث للحصول على لقب روائي، بعد أن أصبح هذا اللقب مُرتبط بالشهرة والوجاهة الاجتماعيّة! وهذا لا يعني بأنه لا يُوجد بين أجيال الشباب من يمتلك موهبة الإبداع، ولكنني أتحدّث عن فئة مُحددة لا تملك موهبة الكتابة الإبداعيّة، وتفتقر لأدوات كتابة رواية، وليس لديها حصيلة لغويّة، ولا مخزون ثقافي، ولا تملك كم من التجارب الحياتيّة تُؤهلها لتأليف رواية! لذا “ليس كل ما يلمع ذهباً” كما يقول المثل. كما أن هناك من يُقرر بين يوم وليلة أن يُصبح روائيّاً، ويستلُّ قلمه ليسطّر رواية، فيُخرج لنا رواية ركيكة غير مُكتملة العناصر، ويقوم بطباعتها على حسابه الخاص، مُطلقاً على نفسه لقب أديب! وهذا في رأيي أحد الأسباب التي ينظر إليها الغرب تجاه نتاجنا الأدبي، والحكم عليه ظُلماً، بأنّه نتاج هش لا يستلزم الالتفات له، أو السعي لترجمته!
سبب مهم آخر! هناك مسئولية كبيرة تقع على النقّاد السعوديين! أنا أنتمي لجيل من الأديبات يملك إرادة حديديّة، وحفر بقلمه في الصخر، كي يُوجد لنفسه مكاناً في الساحتين الثقافيّة السعودية والعربيّة، ووقفت سنوات طويلة بمفردي وسط عواصف اجتماعيّة قاسية كادت أن تُدمرني! وأعترف بأنني أدين بنجاحي وانتشاري في العالم العربي للنقاد العرب الذين أشادوا بموهبتي منذ بداياتي، وآمنوا بقلمي وساندوني ببحوثهم النقديّة الإيجابيّة، ولم يعبؤوا بالهجوم الضاري الذي طال اسمي ومؤلفاتي! لذا أعيب على أغلبية النقاد السعوديين غيابهم عن نقد روايات الشباب الذين يملكون موهبة حقيقيّة، والذين هم بحاجة لمن يأخذ بأيديهم، ويُريهم جوانب الضعف في نتاجهم الأدبي، كي يتلافوا الجوانب السلبية مستقبلاً، ويُطوّروا من أدواتهم الكتابيّة. إضافة إلى تورّط عدد من النقّاد السعوديين في مجاملة بعض الروائيين الشباب من الجنسين لاعتبارات خاصة دون النظر لضآلة موهبتهم! مما أدّى إلى انتشار الروايات الهابطة الضعيفة، على حساب روايات جيدة لم تأخذ فرصتها، ولم تجد من يدعم أصحابها، ويُفسح الطريق لها!
دور النشر العربيّة والسعوديّة، متورطة هي الأخرى في عدم وصول الإصدارات السعوديّة للساحات الثقافيّة الغربيّة. أنا لستُ صاحبة قرار، ولكن أتمنى على هذه الدور، كما تلهث خلف الأعمال الأجنبية والحرص على ترجمتها للعربية، لمردودها المادي المضمون، أن تهتم بترجمة الأعمال العربية الجديرة بالترجمة إلى اللغات الغربيّة، وإيجاد سوق لها في الساحة الغربية، وخلق جسر من التواصل بينها وبين دور النشر الغربية، بترشيح سنويّاً عدد من الأعمال العربية المميزة العربية لترجمتها.
الإعلام العربي عموماً، والأعلام السعودي تحديداً يتعامل مع المثقف السعودي بدونيّة! لا أقصد أنه ينظر إليه باحتقار، ولكن ينظر إليه على أنه ليس ورقة رابحة تُدرُّ عليه عائدات ماليّة مضمونة! ولا تجلب عند استضافته في القنوات التليفزيونيّة، إعلانات ضخمة لذا تمنحه مكافئات ضئيلة! في الوقت الذي يتم الترحيب بالفنانين والفنانات من موسيقيين ومغنيين وممثلين، ودفع أجور باهظة لاستضافتهم، بحجة أن الجمهور لا همَّ له إلا اللهث خلف المغنّي الفلاني، ومعرفة أخبار الممثلة الفلانيّة، وتفاصيل حياة الموسيقي المشهور! ورأيي هذا ليس تقليلاً من قيمة الفن، الذي هو رسالة إنسانيّة واجتماعيّة هادفة، إذا وُضع في إطاره الصحيح!
وزاد الطين بلّة، مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، كما يحلو للكثيرين إطلاق هذا الاسم عليهم، الذين ابتليت جلَّ المجتمعات بهم، وأصبحوا يُشار لهم بالبنان، ولديهم متابعون بالملايين، ويجذبون الناس لصفحاتهم ليُشاركوهم أدق تفاصيل حياتهم! والنتيجة كارثيّة! أصبحوا قُدوة للأجيال الصاعدة، وساهم انتشارهم في عزوف الأجيال الجديدة عن القراءة، وعن متابعة ما يصدر من نتاج أدبي بالساحتين الثقافيّة السعوديّة والعربيّة.
سأكون صريحة! الترجمات التي تحققت لأدباء عرب، وأنا منهم، أغلبها للأسف تمّت بجهود فرديّة من قبل الروائي! ليس هناك مؤسسات أهلية تدعمه، ولذا يلهث خلف دور نشر معيّنة لترجمة كُتبه، وقد ينجح بعد محاولات متكررة تصل إلى حد التنازل عن حقوقه الماديّة! وقد يقع – للأسف- في مصيدة مترجم رديء، يقوم بتشويه ترجمة رواياته، لجهل الروائي باللغات التي تُرجمت إليها أعماله! إلى جانب أن الترجمة تُكلّف الروائي مبلغاً كبيراً إن فكّر في تحمّل تكاليف ترجمة رواياته! وهو ما دفع بكثير من الروائيين إلى السعي لاصطياد واحدة من الجوائز العربيّة التي تأسست في العقود الأخيرة، ليس فقط من أجل الكسب المادي، وإنما لضمان ترجمة أعمالهم للغات أخرى!
دوماً هناك سؤال يفرض نفسه في فكري.. لماذا لا يتم تأسيس مشروع ثقافي تدعمه الدول الخليجيّة، يقوم على سواعد وزارات الثقافة، بشراكة مع رجال الأعمال المشهود لهم بدعم الثقافة والمثقفين، لترجمة الأعمال الروائيّة الجديرة بالترجمة، كي تُصبح في متناول القارئ الغربي، مما سيُسهم في تعريف المجتمعات الغربيّة بنتاجنا الفكري، وبأننا أمّة تملك عقولاً مستنيرة؟
في عالمنا العربي، مُعظم الروائيين العرب لا يحصلون سوى على الفتات من ريع نتاجهم الأدبي، فالجميع يعلم بأن مردود الكتب بعالمنا العربي لا تحقيق لصاحبها الثراء كما يحد بالمجتمعات الغربيّة! لذا نجد أن مُعظم الروائيين المتميزين فكريّاً، لديهم وظائف ثابتة تُعينهم على مُتطلبات الحياة! وهو ما يدفعني لسؤال مهم.. لماذا لا تُخصص وزارة الثقافة ضمن ميزانيتها، مبلغاً ماديّاً للروائي، كي يتفرّغ لمدة معينة لتأليف رواية مكتملة العناصر، كما هو متبع في الكثير من دول العالم؟
الرواية ليست مجرد وقت يقضيه القارئ بين سطورها، كما يقضي المرء وقته في التنزّه بين الحدائق للترفيه عن نفسه، أو الاسترخاء على أريكة وسماع أغنية تُحرّك وجدانه! الرواية هي مرآة عاكسة لفكر الشعوب، ومراحل تطورها على مدى العصور، بأسلوب أدبي جذّاب. الرواية هي توثيق لكل حقب التاريخ ممزوجة بخيال الروائي. فإذا رغب أحد في معرفة تاريخ إنجلترا في حقبة العصر الفيكتوري، فعليه بقراءة روايات أديبهم العظيم (وليم شكسبير). وإذا أراد شخص أن يعرف فصولاً عن حقبة القياصرة، فليقرأ للأديب الروسي العبقري (دوستويفسكي). وهذا ينطبق على العديد من أدباءنا الذين وثّقوا تاريخ مجتمعاتهم، كالأديب السعودي “عبد الرحمن المنيف” في روايته “مُدن الملح” بأجزائها الخمسة.
أحلم كما يحلم غيري من الروائيات والروائيين السعوديين أن يكون النتاج الروائي السعودي مُتواجداً على رفوف المكتبات الغربية، وأن يكون في متناول كل عاشق للأدب. وليس صحيحاً أن الروايات تُكتب للنخب فقط كما يتهكّم عليها فارغي الفكر، بل هي عين ثاقبة تغوص في عُمق مجتمعها.
نحن بحاجة ماسة اليوم لإيصال أدبنا السعودي إلى العالمية من خلال الترجمة، لترسيخ مفاهيمنا، وتحسين صورتنا التي تُحاول النفوس المريضة تشويهها، وتصدير رؤيتنا الحياتيّة الإنسانية للعالم أجمع، بما يتماشى مع أهداف وزارة الثقافة اليافعة، في دعمها للأدب والأدباء، وفي سعيها الدؤوب لتعزيز مكانة المملكة عالمياً من خلالهم، وتحقيقاً للأهداف الكُبرى لرؤية الوطن الطموحة 2030.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى