قصة قصيرة
أخيرًا.. ظهر رقم بوابة المغادرة التي يتوجب عليها الاتجاه إليها، مشت على عجلٍ بينما تسمع تنبيه الرسائل على هاتفها، أخذت تخمن من يمكن أن يراسلها بهذه الطريقة في كل مرة، لا شك أنه يوسف!
وصلت إلى مقعدها في الطائرة بسهولة، وكان ذلك كافيًا لتبدأ في تفقد هاتفها بينما يشرح المضيف للمسافرين تعليمات الملاحة الجوية، برز اسمه فعلاً كما توقعت ذلك.
بدأ حديثه بسطور من المزحات التي يتميز بها حين يتقلد لهجة من اللهجات الغريبة عنها ليسرق من جديتها المعتادة بعض الضحكات، وختم حديثه بأمنيته التي يحاول إقناعها بالموافقة عليها..
لطالما كان هذا الأمر ينقلها من علياء المسرّة إلى سويداء القلق والتجهم مهما سبق طرحه من مؤانسة وتودد، ودائمًا ما تختار الصمت على الرد الذي يصرخ بداخلها رافضًا هذه الفكرة، قاطعها صوت محرك الطائرة التي سارت متجهة إلى رمال السحب البيضاء، تحب مراقبتها بينما تتهادى الخواطر نحوها برتابة وانسجام، حاولت بعينها أن تصل إلى أبعد نقطة تراها، فبرز السؤال الذي ينتظرها أن تجيب: لماذا أخاف هذا القرار لهذه الدرجة؟ هل حقًا لا يمكن الوصول إلى درجة اليقين بصحة هذا القرار؟ لماذا أحتاج إلى أن أجازف بالوثوق بيوسف على مدى يطول على التنبؤ والرغبة؟ تكاثرت الاستفهامات دون رد؛ ودعاها ذلك إلى العودة سنينًا طويلة إلى طفولتها، كانت صورة والدها الغاضب الذي لا يمكن توقع تصرفاته راسخة في ماضيها، أما الخيبة الأولى؛ فهي حينما حاولت أن تحسن التصرف بلطف يذيب جمود شخصيته وجديتها، سرعان ما تحول ذلك إلى عقوق ونكران وإساءة لم يداخله فيها الشك عن كونها “مقصودة” و”متعمدة”! -حسب ما شعرت-
تنبهت لصوت أمها بينما تناديها لنجدتها في المطبخ، تكرر النداء من مكان آخر يفترض بها التواجد به في ذات اللحظة، مهام متلاحقة تتابع مع كل ضيفٍ أو مناسبة، دون حق الاعتراض أو التفاوض، كانت سنين دراستها عبارة عن مطرقة المعلمات، وسندان الوصاية الأبوية التي بات يعبر عنها بالمحبة المشروطة، أو الابتزاز العاطفي، لم يناسب ذلك طبيعة شخصيتها الحالمة، التي ترى كل الحدود وجدت لنتعلم التمرد عليها، انهمر شريط الذكريات بحديثه حتى لحظة لقاءها بيوسف، تلك اللحظة التي امتعضت فيها انجذابها إليه، وحين استجابت إلى لمعة عينه في مراقبة ابتسامتها ذات مرّة، كان كفيلسوف يوناني يكاد يصرخ:”يوريتا”! -حين يجد فكرته الضالة أخيرًا-، ها هي الآن، تقف بينما يستمر في جذبها نحو الأمان وتكوين أسرة عالم صغير يعيشانه معًا، تشعر أنها معه تهرب راكضة ولكن إلى الأمام، لم تكد تفتح عينيها وتغمضها حتى مرّت ٣ سنوات من الود الذي لا يعكره كدر، إلا ليعوضه ما بعده من أنس ورحمة، توقفت بينما تستذكر لحظة توقيعها على عقد الزواج، كانت تشعر بأنها لأول مرّة؛ تخطو بناء على شعور وحسّ، لا منطق ودراسة، رغم ذلك، لم تتوقف الحياة ولم ينتشِ المنطق بينما تغرق في قاع فشل مّا قائلاً: لقد حذرتك..
قاطعها إخبار الطيار عن قرب الهبوط داعيًا إلى ربط الأحزمة، رفعت هاتفها قبل أن تصله إشارة الإرسال كاتبةً: حسنًا، لا أمانع فكرتك.
أغمضت عينيها باسمة بينما تستذكر حماسته حينما كان يعدد أسماء أبنائه الغريبة التي لن توافق يومًا على أحدها.