الإسلام عندما أنشأ حضارته لم يضق ذرعًا بالأديان السابقة، بل رأت الدنيا لأول مرة دينًا يتسع صدره للأديان الأخرى، ولا يتعصب ضدها ولا يطرد غير المؤمنين به من ساحة العمل، بل يعطيها حق الحياة معه.
وفي إيمان واثق مطمئن بكل ما جاء من عنده على أي لسان، وفي أي زمان أو مكان دون تمرد على حكمه ودون تمييز شخصي أو طائفي أو عنصري بين كتبه أو رسله قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
التسامح في أبسط صوره يعني قبول الآخرين والتعايش معهم سواء كان هذا الاختلاف في الدين أو العرق أو الرؤية السياسية، ويكتسب أهمية خاصة إذا كان على هؤلاء الذين يحملون قناعات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلفة أن يعيشوا معًا في مجتمع تعددي.
وقد صرح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
إن الإنسان مدني بطبعه؛ فلا تتحقق حياته ولا يبني كيانه، ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو إليه قدراته إلا داخل مجتمع يتشابك فيه الخير والشر، والحب والبغض، والتجانس والتنافر، ويعيش فيه الأنا والأنا الآخر.
وهذا التنوع بين الناس الذي يُمثل ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية، واستلزمتها النشأة الاجتماعية يقتضي التعايش لا التصارع والتعارف لا التناكر والتعاون لا التطاحن والتكامل لا التعارض؛ فقد أشار القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكن كل فرد أو مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار، وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)؛ ولذلك خلقهم أي أن لهذا التنوع والاختلاف حكمة عُليا؛ فهو تنوع في الطبائع والأمزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات يُمثل ثراء وخصوبة وتلاقحًا يحفز على قيام الحضارات وعمران الأرض؛
فالإسلام لا يكف “لحظة واحدة” عن مد يده لمصافحة أتباع كل ملة ونحلة على سبيل التعاون على”إقامة العدل”، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك وحماية الحريات أن تنتهك ولو على شروط يبدو فيها بعض الإجحاف ناهيك بالمثل الرائع الذي ضربه لنا “رسول الله” (عليه السلام) في هذا المعنى حين قال في “صلح الحديبية”: “والله لا تدعوني قريش إلى خطة توصل فيها الأرحام وتعظم فيها الحرمات إلا أعطيتهم إياها “.
وتبرز عظمة الإسلام في توجيهه لأتباعه أن في دينهم قاسمًا مشتركًا بين الديانات كلها فهم يؤمنون بموسى ويوقرونه، وهم كذلك يؤمنون بعيسى ويكرمون مولده، وهم يضمون إلى إيمانهم بموسى وتوراته وعيسى وإنجيله إيمانًا جديدًا بمحمد وقرآنه على أساس أن النبوة الأخيرة جاءت تصديقًا لما قبلها ومحوًا للفوارق والخلافات التي مزقت شمل العالم أجمع، فلقد رسخ الإسلام تحت عنوان التسامح معاني وأخلاقيات وأدبيات كثيرة.
فلقد رسخ في قلوب المسلمين أن الديانات السماوية تستقي من معين واحد، ورسخ في قلوبهم أن لا إكراه في الدين؛ فالعقيدة ينبغي أن يستقبلها القلب والعقل بشكل واضح وجلي كما رسخ في قلوبهم أن أمكنة العبادات على اختلافها محترمة في نظر المسلمين وينبغي الدفاع عنها، ورباهم على أن ينظروا إلى غيرهم على أنهم بشر يحتاجون إلى الجدال بالتي هي أحسن:
قال تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
عندما هاجر “رسول الله” إلى المدينة، وفيها من اليهود عدد كبير كان من أول ما قام به من شؤون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقًا تحترم فيه عقائدهم وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى عنهم، ويكونون مع المسلمين يدًا واحدة على من يقصد المدينة بسوء، فطبق “رسول الله” بذلك مبدأ التسامح الديني في البذور الأولى للحضارة الإسلامية، وكان للرسول جيران من “أهل الكتاب”؛ فكان يتعاهدهم ببره ويهديهم ويقبل منهم هداياهم.
ولما جاء وفد نصارى الحبشة أنزلهم “رسول الله” في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم،
وجاء مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد، وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه.
وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني سار خلفاؤه من بعده بهذه الروح المتسامحة التي سادت المجتمع في ظل حضارتنا؛ فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلًا في تاريخ العصور كلها حتى في العصر الحديث.
لقد بلغ التسامح الديني في تاريخنا إلى حد أن المساجد كانت تجاور الكنائس في ظل حضارتنا الخالدة، وكان رجال الدين في الكنائس يعطون السلطة التامة على رعاياهم في كل شؤونهم الدينية والكنسية، ولقد كانت الوظائف تعطى للمستحق الكفء بغض النظر عن عقيدته ومذهبه.
وبذلك كان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق لزمن طويل؛ فكان ابن أثال الطبيب النصراني طبيب معاوية الخاص.
وكانت الحلقات العلمية في حضرة الخلفاء تجمع بين مختلف العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم؛ فقد كانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها، ومثل ذلك كانت الحلقات العلمية الشعبية.. كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في ديانتهم ومذاهبهم..
لقد بلغ التسامح الديني في حضارتنا مما لا يعهد له مثيل في تاريخ العصور الماضية، وقد أجمع المؤرخون الغربيون ممن يحترمون الحق على هذا التسامح وأشادوا به، ويصفون الإسلام بقولهم: “إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة”.
1
كلما استنار أفق الفكر أتسعت دائرة التسامح وازدادت النفس رحابة لتقبل الآخر؛ لتحتوي الكون بعقلياته وتقلباته ومعتقداته لتنضوي تحت لواء الإسلام الذي بنوره يهتدي العالمين!!
هكذا جاءت إضاءات البروفسور ذي الروح المرحة ليضع النقط على الحروف بنور البصيرة المرصع بتاج العلم ووقار العالم المنصف🌹