تعود جذور الدولة السعودية إلى أقدم الحضارات التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية. منطقة تقع بين الماضي والحاضر وفي المركز الذي يجمع ثلاث قارات، وهو مركز تجاري حيوي لعب دورًا رئيسيًا في التاريخ العالمي، ومهد الإسلام، حيث انطلق منه. فمنذ أشرقت بشائر هذه الدولة وبزغ فجرها مع قيام الدرعية في عام 1446م، وحتى توحيد البلاد باسم المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود -رحمه الله- في عام 1932م.
فمع اتساع رقعة الدولة وترامي أطرافها إلا أنها بقيت في تمسكها بدين الله تعالى متبنية شريعة الإسلام وعقيدته، واعتبرته خيارها الأساسي في حياتها ونهجها وتمثلها لأحكامه العملية في جوانب الحياة العامة، فقد تأسست على مبادئ وقيم الدين العظيم وحافظت عليها، مستحقة دون غيرها أن تكون حاضنةً وراعيةً للحرمين الشريفين ولمقدسات المسلمين، وإن حكامها الذين اختصهم الله من بين عبَاده لخدمة مكة والمدينة ورعاية قاصديهما يستحقون أن يكونوا رمزًا للأمة الإسلامية وممثلين لها بين الأمم.
لقد اختطت الدولة لها منهجًا قويمًا متسمًا بالاعتدال والوسطية مؤطرًا بطريقة السلف الصالح في تلقي مصادر الوحي وفهم مدلولاته ومقاصده، تمسُّكًا بكتاب الله وسُنة رسوله -صلَّى الله عليه وسلم-، والسَّير على هَدْيه وهَدي خلفائه الرَّاشدين، والتابعين لهم بإحسان، وما كان عليه السَّلَف الصالح وأئمَّةُ الدين والهدى، فهي الطريق لتحقيق التمكين في الأرض وبناء الاقتصاد والتجارة؛ إضافة إلى جلب العلوم والاستفادة منها، وبه تتحقق للدولة معادلة متوازنة بين الأصالة والمعاصرة.
أما الحديث عن تفرد الدولة في إدارتها لشؤون البلاد حديث يطول شرحه؛ فكل ما يمكن قوله: إن الأساس الذي حققت به الدولة السعودية تفردها في الإدارة، هو كالحديث عن سر العلاقة المتينة بينها وبين شعبها، فالكثير من المهتمين من المؤرخين وقادة الفكر يعتقد أن وراء ذلك سرًا تخفيه هذه العلاقة؟ هذه حيرة مشروعة في ظاهرها وكثيرًا ما تثار!!! فالحالة الناصعة من تلاحم الشعب مع ولاة الأمر، والتي تتجلى في أروع صورها خلال المناسبات الوطنية والمواقف الصعبة على حدٍ سواء لا يمكن عزلها بحال من الأحوال عن مشهد انتقال الحكم في سلاسة وفق تراتيب مستمدة من الشريعة السمحاء في موقف مهيب، ويزدان هذا المشهد بتوافد الأعداد الكبيرة من الناس لتقديم البيعة وحضور مراسم تقلد الحاكم مقاليد البلاد.
تلك العلاقة الضاربة بأطنابها في وجدان كل منهما للآخر، تختلف كليًا عن تلك العلاقة المحكومة بالدساتير والقوانين الوطنية وتجاوزتها إلى ما هو أبعد من ذلك، وصيرورتها مفاهيم ومسلمات لدى كافة أفراد المجتمع السعودي يلمسها في كل موقف وفي كل حين، ولكن ما أسس له وينمو في كل حين حالة الانصهار الدائم الذي جعل للعلاقة بين الشعب والقيادة خصوصية العائلة السعودية؛ فالأبواب مشرعة واللقاءات مفتوحة لعموم أفراد المجتمع دليل على التلاحم حتى أضحى الكل يستطيع الوصول إلى رأس هرم الدولة، والكل شريك في الحقوق والواجبات، والكل له يد في البناء والتطوير والكل له دور في المشورة وإبداء الرأي.
من السهل على كل مفكر وباحث أن يدعي عدم تعارض الإسلام بتشريعاته مع العلوم الحديثة، ولكن تمثل هذه الحقيقة في الواقع الاجتماعي لشعب عاش حياة البادية والقرية منعزلًا عن العالم زمنًا طويلًا؛ هو وجه الصعوبة الذي أدهش المؤرخين وأثار عند الرحالة المستشرقين فضولهم. حتى إن المؤرخ الألماني “دا كوبرت فون ميكوش” كشف عن دهشته مما يحدث من تحولات وتطورات متسارعة في الدولة السعودية قائلًا: “أثبت ابن سعود أن بالإمكان إدخال وسائل الحياة الحديثة إلى الصحراء مع مراعاة عادات شعبه وتقاليده وأفكاره..”. كتاب الملك عبد العزيز رؤية عالمية ص٤٢١.
– متخصص في الشريعة والقانون