تحدثت في مقالي السابقين عن المرأة الحديدية غالية البقمية، وعن مزنة المطرودي وأشرت إلى أن هؤلاء النسوة كانوا استثنائيات بالمعنى الحصري للكلمة. واستكمالًا للحديث في هذه النقطة، ولكن من زاوية أوسع، ولا سيما أن العالم يحتفل اليوم بما أطلق عليه اليوم العالمي للمرأة، يمكننا التأكيد أننا لسنا بحاجة لهذا اليوم للاحتفال بنساء الجزيرة العربية ممن أسهمن في وصولنا لما نحن عليه اليوم؛ هؤلاء النسوة لا يحتجن إلى لفت أنظار العالم إليهن بشكل أو بآخر، بل إلى العمل النسوي في بيئتهن ورعاية أسرهن وتحمل صعوبات الحياة، ومن هنا فإني أبسط القول في الإشارة إلى أن الجزيرة العربية أرض مباركة تكتنز بالكثير من الأمثلة لهذا النوع من النساء التي سطرت نماذج عديدة في كل أسرة يجب أن تخلد؛ وعلى سبيل الإشارة إلى نموذج فريد وغني بالقيم كانت جدتي لوالدي منصورة بنت منصور دخيل الله الأحمدي (من الصميدات) يرحمها الله من خيرة نساء البدو، وقد عرفت عنها الكثير حيث عشنا معها أجمل الأيام وحرصت على اقتفاء كل أثر تركته وكل مقولة لها. كانت خلوقة غيورة على نساء الأسرة وبالأخص حفيداتها بل وكل امرأة تعرفها وفي محيطها تسدي النصح وتوجه الجميع لا تقبل المزاح ولا الحديث بصوت عال فهو من الأدب لدى المرأة البدوية. لم ترتدي البرقع ولكن لم أرى فمها حيث تغطيه بلثام لا ترفعه الا عند نومها. كانت تجيد الطبخ البدوي الأصيل وحرصت على تعلم بعضه منها وقد عاصرت زواجي ورأت ابنتي البكر. وبعد رحيلها الذي صادف أول أيام عودتي من الابتعاث حرصت أن أُحدث أعمامي للسؤال عن مآثرها وخلقها ونشأتها ونقل ذلك لبنات العائلة من الجيل الحالي ممن لم يحظى بصحبتها. طوال طفولتي كنت وأخوتي ممن يزورها ويستمتع بالمبيت عندها وبقضاء الوقت الطويل معها فلم أسمع منها كلمة نابية ولا تذمر ولا شكوى بل حمد لله وشكر وتسبيح رغم ما عاشته من يتم وزواج وانجاب أبناء في سن صغيرة وفقد للأعزاء. كانت فخورة ببدواتها لا تترك مناسبة الا وتذكر حياة البادية والماضي الذي كان جزء مهم من حاضرها وكيف عاشوا حياة شظف العيش والصبر والتحمل. كانت رحمها الله ودودة ولطيفة لا تذكر أحداً في مجلسها بسوء وتسكت ان لم تمدح وتترفع عن ساقط القول والفعل محتشمة تحب التزين بلا مبالغة لا يُرى منها الا طرف عينها عند خروجها من بيتها الذي لا تغادره الا مع أحد أبنائها لزيارة أحد الأقارب وكانت مقلة جداً في الخروج من المنزل والتزاور الا لضرورة. تميزت وأخوتها بالتواد والتراحم فيما بينهم. كانت عطوفة تتدفق بالحنان والرفق على من يعمل في بيتها لخدمتها وان عرفت عن مرض أحد من الأبناء والأحفاد تسأل عنهم بإلحاح كبير وتدعو للجميع. وقد روى لي عمي:
“أم والدك – رحمهما الله – هي منصورة بنت منصورة الأحمدي يرحمها الله، ولدت في قرية المسيجيد من قبيلة الأحامدة المشهورة بالشجاعة والإباء، لذا فهي من قبائل الحرب، وقد كان والدها منصور بن دخيل الله يرحمه الله معروفًا بالكرم والشهامة والشجاعة، توفي تاركا في سن صغيرة ثلاث صغيرات وأخوهم محمد. تعهدت الكبرى وهي جدتك إخوتها وأسهمت في تربيتهم. أسهمت- رحمها الله- في تربية إخوانها وأعانت أمها على رعايتهم وقد كانوا جميعاً دون سن العاشرة عند وفاة والدهم: مسفرة، وسلمى، وأخيها محمد، رحمهم الله جميعًا، وأسهمت أيضًا في إعانة أختها مسفرة، التي أصيبت بالمرض مع ولادة أحد أبنائها، تزوجت منصورة بنت منصور في سن صغيرة للغاية من الشيخ حمدان بن علي الغامدي (المدني) وأنجبت ابنتين، هما رقية وغزوة توفيتا صغيرتين، والأبناء علي رحمه الله (فكانت كنيتها أم علي)، ووالدك خلف الله رحمه الله، تغمدهم الله جميعًا بواسع رحمته، وغازي، وعادل، أمد الله في أعمارهما. ربت أبناءها على الأخلاق العالية، وحثتهم على حسن التعامل مع الآخرين، والسير على نهجهم في الدراسة فشق كل منهم طريق في الدراسة والحياة، وقد رفضت الزواج بعد انفصالها وتفرغت لتربية أبنائها. وكانت جدتك منصورة محبة للخير، واصلة للرحم، محبة لخالها الوحيد عابد الحازمي وكانت تسهم في الصدقة في كل ليلة من ٢٧ من شهر رمضان، عن والديها وعن أخيها محمد وعن أخوالها حسن وعابد الذي لم يرزق بالذرية لكن أوصتنا بالتصدق له والدعاء كما كانت تفعل”.
وأوصت أبنائها بالصلة للأرحام والتراحم والرحمة في التعامل فكانت ترقى وتنأى عن صغائر الأمور وواصلة لكل من عرفت حتى مع أخوات زوجها بعد طلاقها تسأل عن مريضهم وتبارك لهم أفراحهم وتواسيهم في أحزانهم فكانت العلاقة مصداقاً لقوله تعالى “ولا تنسوا الفضل بينكم”. وكانت تربطها بينها وبين أم إخواننا، (والحديث لا يزال لعمي غازي أطال الله عمره في طاعة الله) ” مودة ومحبة وتواصل بالخير حتى الوفاة. عاشت في آخر حياتها حول أبنائها وكانت تحفهم بالمحبة والمودة، وتفرح بأحفادها، فقد منحتهم الشيء الكثير من الحب، وكان من دعائها: اللهم لا تثقل بي الأرض، ولا تحوجني إلى الخلق، إلا إلى رب العباد! ومرت ثلاثة أيام في مرضها، ثم انتقلت إلى رحمة الله ودفنت في بقيع الغرقد في الأول من ذي الحجة لعام 1426ه “.
يستطرد عمي قائلًا: والشيء الذي أحب أذكره كلما ذكرت أمي يرحمها الله أن جدتي لوالدتي سعيدة، رحمة الله عليها، إبان حياتها في قرية المسيجيد، كانت تساند أهل قريتها وعملت قابلة لنساء القرية تولدهن، تسير طوال الليل تنتقل من دار إلى دار فالقرية لم يكن فيها قابلات ولا مراكز صحية قبل أكثر من مئة عام. وعرض عليها مبشرا إياها ابنها عابد فكرة التوظيف بناء على طلب الحكومة السعودية آنذاك أي أن تتقاضى مبلغًا من المال مقابل هذا العمل النبيل الذي كانت تقوم به، ولكن سعيدة الحازمية رفضت ذلك بشدة، وأصرت أن تستمر على ذلك بدون أجر؛ لقد كانت تعتقد اعتقادًا جازمًا أن الأجر الأوفى من رب العالمين، وهكذا كانت تردد.
كما يبدو من الروايات المتواترة أن جدتي سعيدة، الحازمية، جدة والدي من أمه رحمهم الله، والتي كانت قابلة، دعمت وساندت الكثير من نسوة القرية كمتطوعة قبل أن يُعرف ويُشاع معنى للكلمة ولكن بتطوعها هذا طلباً للأجر من الله عز وجل كتب الله لها نهاية سعيدة. فعندما انتقلت للعيش في المدينة المنورة عمدت الى زيارة المسجد النبوي الشريف باستمرار وكعادة أهل المدينة الذين كانوا إذا أكملت المرأة بعد الولادة أربعين يومًا فإن أول مكان تخرج إليه هو زيارة المسجد النبوي هي ومولودها، تزور للسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد ولادة عمتي الكبرى لابنتها الأولى، رحمهم الله، ذهبوا هي وجدتي منصورة، مع والدتها سعيدة وأختها مسفرة والعمة رقية-الوالد- وطفلتها حديثة الولادة إلى المسجد النبوي الشريف للتشرف بالسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم. كان هناك ما يسمى بالمزور، والمزور رجل يقوم بأداء الزيارة ويردد خلفه الزوار وكان الزوار، رجالًا أو نساء، يقفون أمام حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسلمون عليه. بدأ المزور يسلم: “السلام عليكم يا رسول الله، السلام عليكم يا رسول الله.” وكانت جدتي سعيدة تردد هذه الصلاة. فلما أوشك أن ينتهي من السلام، تدهدهت جدتي على صدر ابنتها منصورة، ولفظت أنفاسها الطيبة، وانتقلت إلى الرفيق الأعلى؛ لقد أكرمها الله بهذا الختام المبارك. وأعتقد أن هذه الخاتمة الطيبة من أسبابها فعل الخير الذي عرفت به وتطوعها لخدمة نساء القرية وما كانت تتمتع به من مساندة الناس ومن صلتها بأرحامها وأقاربها، رحمها الله وتغمدها بواسع رحمته.
في كل أسرة هناك قصص تروى لنساء عظيمات من هذه الأرض المباركة عاشوا صعوبة الحياة من الفقر والجوع واليتم وتجرعوا مرارة الفقد للأعزاء ومرض الأبناء ولكنهن سطرن تاريخًا ومآثر خالدة تستحق أن يذكر. لأجل ذلك تستحق هؤلاء النسوة كل آيات الشكر والعرفان والدعاء لأنهن كن سببًا لما نحن فيه اليوم من رغيد العيش والنعمة والأمن والاستقرار. إن إزاحة الستار عن هذا التاريخ المشرف وأفعال هؤلاء النسوة اللاتي بذلن الغالي والنفيس فمن كان لديها مال تتبرع بمالها ومن كان لديها جاه ساهمت بجاهها ومن كان لديها صحة وبعض علم ودراية بادرت به لخدمة مجتمعها وأسرتها. فلله درهن ودر أمثالهن! ولا أجمل من أن يُكرمن اليوم بعد مرور عقود من الزمن ليس لمجرد الذكرى في يومهن العالمي، ولكن للتذكير بمآثرهن ودراسة تاريخهن وإطلاق أسمائهن على المدارس ودور التعليم ليصبحن علامات تهتدي بهن بنات جنسهن ويحاولن الاقتداء بهن. لقد خلدت المرأة السعودية منذ بدايات الدولة المباركة أروع المثل في الحكمة والشهامة والسياسة والدين، والصلاح، والكرم، والعلم.
وأكرر القول بأنه على التعليم إزاحة الستار عن الأدوار النسوية المختلفة للمرأة البدوية العربية السعودية التي شاركت في بناء المجتمع وترسيخ دعائمه والحفاظ على العادات والتقاليد وخدمت مجتمعها وتطوعن للعمل وتميزن بالحشمة اذا اضطررن لمخالطة الرجال في ضرورة وتقوى وورع وبعد عن المبالغة والعزوف عن المظاهر والتركيز على الهدف من الحياة والمضمون في التعاملات.
– جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل