جنت الصين ثمرة المباحثات المستفيضة التي جرت بين وفود متخصصة من المملكة العربية السعودية وإيران، واستمرت لعامين بوساطة عُمانية أولًا، ثم بوساطة عراقية بعد ذلك، وكان موقف الدول العُظمى التي لها مصالح في المنطقة غير واضح من هذه المباحثات، فمواقف الدول الأوروبية تابعة للموقف الأمريكي الذي كان يدفع إلى تأزيم الأمور في منطقة الشرق الأوسط وزيادة تعقيدها، وإعادة رسم خريطة سياسية جديدة لها تضمن الهيمنة الأمريكية الكاملة عليها، ولعلنا نتذكر هنا المشروع الذي كانت إدارة أوباما تدفع المنطقة إليه تحت مسمى “الربيع العربي” بينما كان في الحقيقة مشروعًا خريفًا عربيًت تساقطت فيه أوراق سلام الشعوب التي استجابت له، وما زالت آثاره ومتاعبه مستمرة تدفع ثمنها الشعوب التي وقعت في حبائله إلى اليوم، كما كان موقف إدارة أوباما من الأزمة السورية مخيبًا للأمال والتطلعات التي كانت تُعقد على الدولة التي تُعلن تبنيها مناصرة الشعوب المظلومة ورعاية الأمن والسلم الدوليين، وأسهم في فقد الولايات المتحدة الأمريكية لمصداقيتها في التعامل مع أحداث المنطقة ومستجداتها.
وانكفأت روسيا على الاهتمام بأزمتها مع جارتها أوكرانيا بعد انهيار العلاقات بين البلدين إثر الثورة الأوكرانية عام 2014، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ودعمها للمقاتلين الانفصاليين من جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك في حرب أودت بحياة أكثر من 13000 شخص بحلول أوائل العام 2020، وفُرضت بسببها العقوبات الغربية على روسيا، ثم تطورت الأزمة إلى حرب بين البلدين لا زالت مستمرة إلى اليوم.
ويبدو أن الصين التي تركز على القوة الناعمة لتحقيق مصالحها الاقتصادية، وتنأى بنفسها عن المشاكل والدخول في حروب أو خلافات إقليمية أو دولية، كانت تراقب مراحل المباحثات الجارية بين المملكة وإيران بهدوء، وتنتظر الوقت المناسب للإسهام في الوصول إلى اتفاق بين البلدين اللذين تربطها بهما علاقات جيدة ومصالح كبيرة مشتركة، تحرص على استمرارها من خلال استتباب أمن المنطقة.
وكانت المباحثات بين البلدين شبه محكومة بالفشل؛ نتيجة للتعنت غير المنطقي في موقف إيران، ومحاولة الجانب الإيراني الوصول إلى اتفاق يضمن المصالح الإيرانية مع إمكانية التهرب من الالتزامات المترتبة عليه، وهذا الأمر كان يرشح من خلال بعض تصريحات الجانبين من هنا وهناك، إلا أن تلك المباحثات أظهرت صلابة الموقف السعودي وحرصه على تحقيق أقصى فائدة من الاتفاق لصالح البلدين أولًا، ثم لصالح المنطقة برمتها.
ومع تزايد الضغوط الدولية على طهران وتشديد الحظر الاقتصادي والعسكري عليها، وشعورها بالخطر من تدخل دولي ينهي برنامجها النووي نتيجة لموقفها من الرقابة الدولية على منشآتها النووية، دخلت الصين على خط المباحثات بين المملكة وإيران التي اضطرت للتنازل عن قناعاتها وتشددها في مفاوضاتها مع المملكة؛ للوصول إلى اتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها “شهران”، ويتضمن الاتفاق تأكيد البلدين على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما كانت المملكة تشدد على تمسكها به خلال جولات الحوار بين الجانبين، وهذا سيؤدي -بمشيئة الله- إلى تمكين الشعوب في اليمن وسوريا ولبنان من إيجاد حلول للأزمات الراهنة فيها، والوصول إلى حلول مرضية بدون تدخل خارجي من أي طرف كان.
وبهذا الاتفاق التاريخي الذي ينهي سيطرة إيران على القرار في عدد من العواصم العربية، ويوقف دعمها للمليشيات الإرهابية التي ستضطر للوصول إلى اتفاق لإنهاء حالة الفوضى التي تعيشها البلدان التي تسيطر عليها، تتفرغ قيادة المملكة العربية السعودية للعمل على تحقيق رؤيتها الطموحة؛ لتكون المملكة ودول المنطقة هي أوروبا الجديدة، كما جاء في كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ألقاها في جلسة حوارية ضمن مبادرة مستقبل الاستثمار 2018 بعنوان “كيف ستحول القيادة ذات الرؤية في العالم العربي إلى قوة اقتصادية عالمية”.
وقال سموه “أعتقد أن أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط، المملكة العربية السعودية في الخمس سنوات القادمة سوف تكون مختلفة تمامًا” مشيرًا سموه إلى أن البحرين والكويت، وقطر والإمارات وعُمان، ولبنان والأردن ومصر والعراق، ستكون أيضًا مختلفة تمامًا خلال السنوات الخمس القادمة.
وأضاف سموه “إذا نجحنا في السنوات الخمس القادمة سوف تلتحق بنا دول أكثر، وسوف تكون اللحظة القادمة في العالم في الثلاثين سنة القادمة في الشرق الأوسط -إن شاء الله-، هذه حرب السعوديين هذه حربي التي أخوضها شخصيًا، ولا أريد أن أفارق الحياة إلا وأرى الشرق الأسط في مقدمة مصاف العالم، وأعتقد أن هذا الهدف سوف يتحقق مئة بالمائة”.
وهذا الاتفاق الذي تم بين المملكة وإيران برعاية صينية يعد واحدًا من نجاحات سمو ولي العهد ـ حفظه الله ـ في إفشال وإزاحة العراقيل التي كانت تدسها دول وجماعات إقليمية ودولية للنيل من رؤية سموه الطموحة، وإيقاف تحقيق الهدف الذي أعلنه في عام 2018 ضمن أهداف رؤية 2030، لتتوالى -بمشيئة الله- نجاحات المملكة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، وغيرها من المجالات التي تضمنتها رؤية سموه.