المقالات

اعتز بكفاءتي

هيا كدا

قد يتبادر إلى ذهن من يقرأ عنوان مقالي أن القصد منه التمجيد في قدراتي وإنجازاتي، ولكن الحقيقة أنه لو كنت حققت إنجازًا؛ فهو بفضل الله أولًا، ثم بتعاون الزملاء من الجندي إلى اللواء.
الحقيقة أني دائمًا أضع الجنود في المقدمة، لأنهم هم القاعدة والعمود الفقري لأي عمل، وهم الصف الأول في العطاء خاصة داخل الميدان، تجدهم بالشارع في مختلف الأعمال، منهم من يعمل في الدورية السيارة، ومنهم من يتواجد على الدراجات النارية، ومعظمهم يؤدي مهمته سيرًا على الأقدام، يسهرون الليل والناس نيام.
وأستغل مقالي في توجيه التحية لهم سواء في الحد الجنوبي أو من يجوبون الأحياء والشوارع لينام الناس قريري الأعين، فهم بعد الله في رعاية العيون الساهرة.
أعود لموضوع الكفاءة، والحقيقة أنا أعني شهادة الكفاءة المظلومة؛ حيث أصبحت مجرد ورقة لا تقدم ولا تؤخر، أفضل ما تقدمه في الوقت الحاضر هو أن تجعلك تنتقل إلى المرحلة الثانوية، هذه الشهادة التي أحببتها وأضعها على رأسي وفي قلبي، بيني وبينها ود خفي محفور قلبي ومشاعري ومسيرتي في الحياة.
تلقيت دراستي الابتدائية متنقلًا مثل ابن بطوطة من محطة إلى محطة، التلميذ المتواضع يتخطى المسافات والحارات لكي يواصل مشوار الحياة بمفرده، هذا المشوار الذي كنت أسير فيه على غير هدى من جدة لمكة، ومنها أعود لجدة وهكذا.
درست حتى الصف الثالث الابتدائي في مدرسة الوزيرية في أطراف الكندرة، ثم رحلت إلى مكة لأدرس الصفين الرابع والخامس في المدرسة المحمدية بالجميزة عاصمة حي المعابدة، وفي ذلك الريع الجميل الذي وإن كان اسمه مسكينًا فقد كان غنيًا بأطياف متعددة من ساكنيه البسطاء، الذين ربما كانوا على قد الحال في الجاه والمال، ولكنهم كانوا نساء ورجالًا يعتمدون في حياتهم على مجهودهم وعرق جبينهم.
هؤلاء السكان لم يكن بينهم بخيل، فقد كانوا كل يوم يقدمون مختلف عناصر العيش، من قرص الحب الذي كان ألذ من الكيك والبيتي فور، إلى كافة الحاجات الضرورية المطلوبة في كل زاوية لأي بيت، واللطيف في تلك الأيام وبالذات في تخوم الحارات الشعبية أن الكل كان راضيًا بالمقسوم، فمن ضَمِن قوت يومه فقد استغنى.
قصص وحواديت كانت تسيطر على وجداني وانطلاقة لساني في الماضي، ولكن لا أعلم أهو الألم المستتر بالصبر اللامتناهي، والمدثر بالرضى والحمد، أم هو العشق الخفي الذي يسرقني بين حين وآخر لهذه الحقبة من الحياة، رغم مرور عقود طويلة على تلك الفترة المخضبة بالبساطة والعفوية وحب العيش المشترك.
وسط هؤلاء البشر يجب ألا تقلق، فإذا لم يكن عندك تلك الوجبة البسيطة قليلة التكلفة، فبدون ما تشكي ولا تريق ماء وجهك ولا عصيره، كل ما عليك هو التفكير، وبعدها على ربك التدبير، ستجد من يطرق باب دارك ويأتيك بالطعام، دون أن يشعرك أنه يمن عليك أو يساعدك، ولكن يبلغك أنه أحضرها لتتذوق.
“أم زيد تبغي رأيكم في طبختها”، دائمًا ما تكون تلك الجملة هي المصاحبة لأي طعام يقدم لك من جانبهم، هكذا الأريحية، ما أجملها وما أعظمها، رغم أنها قد تكون نصف حصيلة طعامهم، ولكن شعارهم “اللقمة الهنية تكفي مية”.
أعتذر لمن يقرأ ويتداخل معي في تفاصيل شخصية قديمة، فإني كلما مرت كلمة عابرة تذكرني بتلك الأيام أجدني منحازًا لها، وكما يقولون “ما الحب إلا للحبيب الأول”.
واستكمالًا لسرد تجربتي، أكملت الدراسة في السعودية الابتدائية، ثم الصفين الأول والثاني الإعدادي، بعدها انتقلت إلى الرحمانية الثانوية في مكة وتحديدًا في ربع الحجون، والتي كان مديرها المعلم الفذ القدير محمد الشبل -رحمه الله-، بعدها عدت إلى جدة، مسيرة تشبه “ابن بطوطة” كما ذكرت من قبل.
انتقلت إلى جدة وأكملت الدراسة وحصلت على شهادة الكفاءة، وهنا بدأت تحلى الحياة “وآه يا عيني ع الحياة”، ورغم أن طريقي اكتسى بالمرارة والكفاح الصعب، إلا أن حلاوة “الكفاءة” تكمن في أنها كانت المفتاح الذي فتح الأبواب أمام إنسان يتشبث بقشة لينجو من أمواج بحر الحياة العصية المتلاطمة، ومرارتها كانت في تحدي مواجهة المصير المجهول، وهو التوجه لمدرسة الشرطة التي أصبحت أكثر تقدمًا؛ خاصة بعد زيادة سنوات الدراسة من سنتين إلى ثلاث سنوات، وبعدما أصبح التسجيل لحاملي الكفاءة بدلًا من الابتدائية.
الراتب بعد التخرج كان هو مربط الفرس، فقد ارتفع من 400 ريال تقريبًا إلى 863 ريالًا، رقم يسيل له اللعاب في ذلك الحين، بخلاف أن هناك راتبًا أثناء الدراسة يصل إلى 300 ريال، مبلغ لا يحلم به أحد وقتها إلا القوي الأمين أو المحظوظ.
استكملت الدراسة وتخرجت وانطلقت من ملازم في نجدة جدة إلى أن عُينت مديرًا للأمن العام، ومن ثم مستشارًا لوزير الداخلية، وذلك كان أولًا بفضل وتوفيق من الله -عز وجل-، وبعده رعاية وثقة قادتنا -حفظهم الله-، ولا شك أن مجهودي وشغفي في العمل كان ركنًا هامًا وأساسيًا في تلك الخطوات المتتالية من التقدم، حيث درست وحصلت على الثانوية، وبعدها تحصلت على البكالوريوس من جامعة الملك عبد العزيز، وتقدمت إلى جامعة الإمام لتحضير الماجستير، ثم غيرت رأيي وتوقفت، كل هذه الشهادات بما فيها الدكتوراة لو كنت نلتها، لن تساوي في نظري شيئًا بجانب شهادة الكفاءة العزيزة، لم أقبل أن يزاحمها أي منافس ويدعي أنه البطل في مسيرتي.
لست ضد الشهادات مثل الماجستير والدكتوراة، والتي أصبحت عديدة بعد ذلك، بل إني مع ما يحتاجه الوطن من أيدي عاملة متقنة، نحن في مرحلة بناء تحتاج للحرف الفنية بمختلف عناصرها، خاصة التي تتعامل مع الأمور التقنية والتكنولوجيا، وفي نفس الوقت مع الاحتياجات التي يتطلبها سوق العمل الوطني، ولكني ضد تراكم الشهادات، خاصة تلك التي لا تحقق فائدة، وتكون مجرد تحفة توضع في برواز للمشاهدة لا أكثر.
وفي الختام اسألكم يا كرام.. أليس لي الحق أن أعتز بـ”كفاءتي”؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى