المقالات

التكفير بين الدين والسياسة

من نظر في مسألة التكفير في عالمنا الإسلامي اليوم، يجد أنها هي السلاح الأخطر الذي تستخدمه الأحزاب والجماعات الإسلامية المتطرفة بشكل سياسي بعيدًا كل البُعد عن الدين الإسلامي ومقاصده، فقد جعلت مقاصدها السياسية مُقدمة على مقاصد الدين، وجعلت من مراسمها الضيقة حدودًا تُخرِج من حدود الإسلام الواسعة، فقامت بطمس حقائقه، وتلبيس مفاهيمه، وخلط أوراقه، التي من شأنها أن تجعل المسلم دومًا في حيرةٍ من أمره، غير مُحدد المعالم والهوية، ففرقت بين الأب وابنه والأخ وأخيه والمرء وزوجه، وقامت بسياسة ردة الفعل، من دون أي فعل أصلًا، فقامت مُتعطشة لسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وترويع الآمنين، وأخذت سلطانًا من تلقاء أنفسها تجري به أحكام الردة والتكفير والتبديع والتفسيق، لكل مارقٍ عن هديها، أو خارج عن إطار جماعتها، وقدمت للعالم كله افتراءاتها على أنها أصل للإسلام، وأساس العقيدة الصحيحة المنضبطة التي لا يسع طالب الحق إلا اتباعها، فقد كفرت بالعموم، وبالمجمل والمتشابه من الشريعة، وبما ليس بمكفر في الأصل، ومن نظر في مسألة التكفير في مصادرها الأصلية، وهي القرآن الكريم، وبما ثبت عن نبيه الأمين، يجد أنها من المسائل التي لا يحق لأحد أن يبت فيها، وقد ورد في الصحاح والحسان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت، أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الرياح في البحر، فوالله لأن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحد، قال ففعلوا ذلك، فقال الله تعالى للأرض أد ما أخذت فأدت الأرض ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال الله تعالى له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يارب أو قال: مخافتك يارب، فغفر له).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فهذا رجل شك في قدرة الله في إعادته إذا أحرق فذري، بل أعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا، ولا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك). انتهى.
ومن المعلوم أن هذه المسألة من القول على الله بغير علم، وقد حذر الله منها وحرمها أشد تحريم، قال تعالى: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد عندما قـتل من قال: لا إله إلا الله (أقـتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، أشقـقت عن قلبه)، وحذر منها أشد تحذير لدرجة أنه قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما).
فإن كلمة الكفر ليست بالهيَّنة التي يخرجها الإنسان لا يلقي لها بالًا، بل هي كلمة عظيمة جدًا في عواقبها ومقاصدها وفي وقعها، ولا يتساهل في إصدار هذا الحكم على مسلم إلا من وصف بالجهل والسفه، ولذا نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وصف الخوارج الذين هم أول من تساهل في الحكم بالكفر على المسلمين، وكانت بدعتهم أول بدعة سلت فيها السيوف على رقاب المسلمين واستبيحت بسببها دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، وتفرقت كلمتهم، فقال عنهم عليه الصلاة والسلام: (سفهاء الأحلام) و(حدثاء الأسنان) و(يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) و(يقـتلون أهل الإسلام)، إلى غير ذلك من الأوصاف المشينة، وفي الأصول التي يعتقدونها وقاموا بتحريفها، ضوابط تضبط هذه المسألة، فليس كل من فعل الكفر حكم بكفره، إذ القول والفعل قد يكون مكفرًا، لكن لا يطلق الكفر على القائل أو الفاعل إلا بشرطه، لأنه لا بد أن يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، فالإنسان قد يكون جاهلًا أو حديث عهد بكفر، وقد يفعل مكفرًا ولا يعلم أنه مكفر، فإذا تبيَّن له رجع، وقد ينكر شيئًا متأولًا أخطأ بتأويله، وغير ذلك من الموانع التي تمنع من التكفير، وهذا أصل عظيم يجب تفهمه والاعتناء به، لأن التكفير ليس حقًا للمخلوق، يكفر من يشاء على وفق هواه، بل بجب الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنة على الفهم الصحيح، وبالنظر في أصولهم كذلك نجد أن ابن تيمية -رحمه الله-، مع أنه قد تراجع قبل وفاته في تكفير أهل القبلة بقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما انشغلت في غير القرآن وإني أتراجع عن تكفيري لأهل القبلة؛ فقال في المسائل الماردينية)، وحقيقة الأمر في ذلك، أن القول قد يكون مكفرًا فلا يطلق بتكفير صاحبه، فيقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وقال أيضًا في معرض حديثه عن أهل العلم في تكفير أهل البدع مقررًا هذه القاعدة (ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، “واو” التكفير المطلق لا يستلزم المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، بيَّن هذا الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا العموميات، ولم يكفروا من تكلم بهذا بعينه). انتهى.
فتبيَّن لنا بعد النظر أن الكفر ينقسم إلى قسمين:
١=كفر مُطلق.
٢=كفر معين.
فأما: ١=الكفر المطلق: هو تنزيل الحكم بالكفر على القول أو الفعل، دون تنزيل الحكم على القائل أو الفاعل، وإن كان قد أتى بمكفر.
و
٢= الكفر المعين: هو تنزيل الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي قال الكفر أو فعله بعد التحقيق من ثبوت الشروط وانتفاء الموانع.
وأما شروط التكفير تنقسم إلى قسمين:
١= شروط في الفعل.
٢= شروط في الفاعل.
فالقسم الأول: شروط في الفعل: وهي على قسمين:
ا = أن يكون الفعل أو القول صريحًا في الكفر لا يحتمل أي وجه آخر غيره.
ب= أن يكون ثبوت الحكم بدليل شرعي من القرآن قطعي الدلالة.

والقسم الثاني: شروط في الفاعل: وهي أربعة أقسام:
ا = البلوغ.
ب = العقل.
ج = التعمد في الكفر.
د = اختيار الكفر.

والموانع التي تمنع ثبوت الحكم بالتكفير فهي ثلاثة أقسام:
١ = موانع في الفاعل: وهي ما يعرض عليه بما يجعله غير مؤاخذ بأقوال وأفعال شرعًا، وهي على أربعة أقسام:
ا = الجهل.
ب = الخطأ.
ج = التأويل.
د = الإكراه.

٢ = موانع في الفعل المكفر: لكون الفعل غير صريح في الكفر ويكتمل عدة أوجه، أو الدليل غير قطعي الدلالة.
٣= موانع في الثبوت: وهي التي تمنع ثبوت الفعل أو القول المكفر على المعين لكون أحد الشهود ليس عدلًا، أو صغيرًا لا يعتد بشهادته، أو نحو ذلك. انتهى.
ويجب التـثبت في هذه المسألة وعدم التهاون فيها، فقد قال الإمام القاضي برهان الدين بن فرحون المالكي: (لا تقبل الشهادة بالردة المجملة، كقول الشهود كفر فلان أو ارتد، بل لا بد من تفصيل ما سمعوه ورأوه منه، لاختلاف عقائد الناس في التكفير، فقد يعتقدون كفرًا بما ليس بمكفر).
والحاصل أن أهل التأصيل والتحقيق يفرقون بين تكفير الفعل وتكفير الفاعل، وكذلك الأمر في التفسيق والتبديع، فهناك فرق بين القول أو الفعل وبين تفسيق أو تبديع القائل أو الفاعل، فليس كل من فعل بدعة صار مبتدعًا، ومن نظر في سيرة العلماء عرف حقيقة هذا القول وعلم مذهبهم وطريقـتهم، ورأى ماهم عليه من العدل والإنصاف، وهذا هو الواجب على جميع الناس أن يكون قصدهم بيان الحق وإزهاق الباطل مع العدل والإنصاف..

والحمدلله …
والله أعلم ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى