قبلَ قُرابةِ ستينَ عامًا كان هناك طالب بريطاني لم يكنْ يميزه عن أقرانه شيء! كان مستواه متوسطًا وكان أساتذته لا يرون منه إلا جانبه الشقيّ، وحدَهُ أستاذ الرياضيات التركيّ (ذكران طه) هو الذي لاحظ أن وراء هذا الوجه المشاغبِ عقلًا رياضيًا فذًّا، فصرف همتَه لتطويره وترقيته وتحفيزه.
كانت نتيجة هذه الفراسةِ أن التحق الطالبُ الذي ظنه أساتذته متوسط المستوى بجامعة أكسفورد، وحصل منها على درجة الشرف الأولى في الفيزياء، ثم أكمل دراسته في جامعة كامبردج حتى حصل على الدكتوراة في علم الكون.
لم تتوقف المسيرة وظلَّ هذا الرجل يُتحف الساحة الفيزيائية والرياضية والفلسفية بإبداعاته التي كان على رأسها كتابه الشهير: (تاريخ موجز للزمن)، بيع من هذا الكتاب أكثر من 10 ملايين نسخة! وعده بعضهم ثاني أكثر كتاب قراءةً في أوروبا بعد الإنجيل!
والأغربُ أن هذا الرجل أصيب في مطلع العقد الثالث من عمره بمرضِ التصلبِ الضموري الجانبيّ، مما أفقده الكلامَ والحركة، فأصبح بلا صوت! ولم يعد يتحرك منه سوى عضلةِ عينيه! وتوقع له الأطباء ألا يعيش أكثر من ثلاث سنوات، ولكنّه مازال حيًا إلى اليوم بعد مرور أكثر من خمسين سنةً على توقع الأطباء.
إنّه (ستيفن هوكينج) أشهر علماءِ الفيزياء اليوم، وأحدُ أعظمُ عباقرةِ العالمِ، وشاغلُ (الكرسي اللوكاسيّ) للرياضياتِ الذي شغله من قبل العالمُ العظيم: إسحاق نيوتن.
الشاهدُ في هذه القصة هو (الأثر) الكبير الذي تركه المعلم التركيّ في تلميذه، وتلك الفراسة التي جعلتْه ينتشلُ هذه الموهبة الفذة، ويضعها في الطريق الصحيح.
إن الأساتذة الحقيقيين يمتازون بهذه القدرة على اقتناص المواهب، ومن ثم وضعها في مسارها الصحيح الذي يلائم عناصر قوتها وتميزها.
شخصيًا مررتُ بتجربةٍ لا أنساها مع أستاذٍ عظيمٍ، ومربّ قدير، هو الأستاذ الكبير عبدالله باحاوي مدير مدرسة مكة الثانوية متّع الله بحياته.
كان هذا المدير دقيق المعرفة بطلابه، وأذكر أنني بعد انقضاء السنة الأولى الثانوية انحزتُ إلى (طابور) طلاب القسم الأدبيّ تبعًا لزملائي، وبينما كان الأستاذ عبدالله يتجوّل بين الطلاب رآني هناك، وكان يعرفُ حبّي للرياضياتِ وتفوقي فيها، فغضب، وقال: ما تصنعُ هنا؟ تحوّل إلى القسم العلميّ، فذهبتُ إلى هناك. ثم غافلتُهُ بعد انصرافه ورجعتُ إلى أصحابي، فلما رجع رآني فغضبَ أشدّ من الأولى وزجرني وأخذني إلى ناحيةِ طلابِ القسم العلميّ، وقال: إن رأيتك رجعتَ جاءكَ مني مالا تحب!! فبقيتُ مكاني.
هذا هو الدور الذي يجب أن يقوم به المعلم في التأثير على طلابِهِ، وتنميتهم، وتوجيههم الوجهة الصحيحة. كم أتمنى أن نصل إلى واقعٍ تكون فيه كليةُ الطبّ بديلاً لمن عجزتْ كليةُ التربية عن استيعابهم!.
إنّ النابغين والموهوبين ينبغي أن يكونوا في كليةِ التربية حتى إذا ضاقتْ عنهم رحّبتْ بهم كليةُ الطب والهندسة!.
لقد بذلت دولتنا العزيزة الكثير من أجل قطاع التعليم، ويتوجبُ على كل العاملين في هذا القطاع أن يبذلوا جهدهم لإيجاد (المعلمِ الكفء) الذي يمارسُ دوره التأثيري الإيجابيّ باقتدار .. وحينئذٍ ستشهد بلادنا الحبيبة المئات من أمثال (ستيفن هوكينج).
0