المقالات

لماذا انتصر المسلمون في بدر؟

تعود علينا كل عام ذكرى الملحمة التاريخية الكبرى التي فرَّق الله -جلَّ وعلا- بها بين الحق والباطل، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، معركة بدر الكبرى.
دروس وعبر لا تنتهي من تلك المعركة الخالدة، تستلهمها الأجيال تلو الأجيال، دون أن ينضب معينها أو يجف مدادها.
أول تلك الدروس والعبر أن النصر من عند الله تبارك وتعالى وحده، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10]، وأن الله -جل وعلا- ينصر من ينصره، ينصر عباده المؤمنين الذين اتقوه وأطاعوه، واتبعوا رسوله عليه الصلاة والسلام؛ ويخذل ويخزي ويذل الكفار والمنافقين المكذبين لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها في الأرض عوجًا.
وما دام النصر من عند الله، فإن أولى الألويات اللجوء إليه سبحانه وتعالى، ودعاؤه وطلب النصر والمدد منه، وهذا ما علمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الحديث، أن رسول الله -صلى عليه وسلم- قال يوم بدر: (اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا، قال: فما زال يَستَغيثُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ ويَدْعوه حتى سَقَطَ رِداؤُهُ، فأتاهُ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فأخذ رِداءَهُ فرَدَّاهُ، ثم الْتَزَمَهُ مِن وَرائِهِ، ثم قال: يا نَبيَّ اللهِ، كَفاكَ مُناشَدَتُكَ ربَّكَ؛ فإنَّهُ سيُنْجِزُ لكَ ما وَعَدَكَ، وأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]) رواه مسلم (1763).
صحيح، أن النصر يحتاج إلى الأخذ بالأسباب المادية وإعداد العدة امتثالًا لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]، لكن الفيصل الحقيقي يكمن في الأسباب الروحية، في الإيمان بالله وتوحيده والثقة في أن النصر من عنده وحده. قال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 248].
وهذا ما حدث للمسلمين، إذ كان عددهم لا يتجاوز ثلاثمائة وأربعة عشر رجلًا في مواجهة أكثر من ألف رجل خرجوا من ديارهم بخيلهم ورَجِلِهِمْ بطرًا ورئاء الناس، يصدون عن سبيل الله، فكانت عاقبتهم الهزيمة النكراء، بينما ولى الشيطان الذي وعدهم بالنصر هاربًا حين رأى الملائكة تُقاتل مع المؤمنين!
أما إذا استوى المسلمون والكفار في المعاصي، وكان الكفار أكثر عدة وعتادًا؛ تفوقوا على المسلمين بأخذهم بالأسباب المادية؛ لذلك كان المؤمنون يخافون من ذنوبهم، فيستغفرون الله عندما يلتقي الجمعان، ويتوبون إليه ويدعونه أن ينصرهم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147].
ومن الدروس التي نستشفها في بدر أهمية الصبر، وأنه سبب من أسباب النصر كما جاءت الآيات والأحاديث بذلك، فالصابر يظفر بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وينال معية الله التي تعني تأييده ونصره، قال تعالى: (وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ) [الأنفال: 46]، وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) متفق عليه.
ومن الدروس المستفادة أن من أسباب النصر التآلف والتوادد بين المسلمين، وأن الاختلاف والتشاحن من أسباب الهزيمة، فالمجتمع الذي يتعايش فيه الناس بوئام رغم تعدد أعراقهم وثقافاتهم مجتمع يسود فيه السلام والاستقرار، على النقيض من المجتمع الذي تسود فيه النعرات القبلية والدعوات الجهوية والعنصرية، قال تعالى: (وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
والقضاء على هذه القبليات والجهويات لا يكون إلا بالتمسك بالدين الذي يجعل الناس سواسية كأسنان المشط، لا معيار للتفاضل بينهم إلا بالتقوى، والله -جل وعلا- هو من يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين، قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63].
ومن الدروس أن طاعة الله ورسوله هي سبب في النصر، كما أن معصية الله ورسوله سبب في الهزيمة والخسران، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وتظل دروس غزوة بدر الكبرى تترى، لينتفع بها أولو الألباب والنهى؛ فما أحوج الأمة لأن تفتبس من مشكاتها ما تستضيء به في عتمة المحن والابتلاءات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى