تثور بين الآونة والأخرى قضايا متكررة تبعًا لظروف وملابسات ظهورها وأسباب انبعاثها، والتي تتفاوت بين العبث والفراغ الفكري، ووجود أزمة في الحوار، كما تُشير إلى ضعف التواصل العلمي بين أفراد النخبة، أو قصور في صناعة المعرفة المبدعة الفكرية والمتطورة والمتجددة؛ حيث تخفي وراءها أزمة فكرية حقيقية، لا يكاد النظر الفاحص يصل لبحثها ومناقشتها بجرأة وعلمية ووسطية واعتدال، ومن تلكم القضايا التي تنبعث بين الفينة والأخرى، الصراع العقيم الدائر منذ زمن ليس بالقصير، بين المذهبية واللامذهبية دون الالتقاء على كلمة سواء، وبين أيدينا كتابان صدرا قديمًا يعبران عن هذا الصراع العقيم أحدهما: للشيخ محمد عيد عباسي (رحمه الله) بعنوان (بدعة التعصب المذهبي)، والآخر للدكتور محمد سعيد البوطي (رحمه الله) بعنوان (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) ومن عنواني الكتابين نلحظ التناقض الصارخ بينهما، وقد كرر المؤلفان فيهما أخطاء الماضين والمعاصرين، فالمذهبية ضرورة علمية للتدرج العلمي، وحذق علوم الاستدلال، وامتلاك ملكة الاستنباط مع ضرورة السلامة من آفات التعصب والعنصرية، كما أن اللامذهبية بمعناها الصحيح أنه لا تحجير على المؤهلين في القراءة والبحث عن الدليل دون الشذوذ الفقهي أو التورط في الأغلوطات، أو الانجرار إلى مهيع البدع والأهواء، أو الاستغناء عن جهود العلماء والأئمة السابقين، ولم يلامس الباحثان حاجة العصر إلى بناء نظرية أو مشروع إسلامي فقهي وعلمي منظم ودقيق يحيط بجوانب الحياة كلها وصالح، ينافس النظريتين (الرأسمالية والاشتراكية) في الألفية الثالثة، وينفذا إلى مواجهة التغريب، وإنهاء الصراع على الهوية، والسلامة من أخطبوط الاستعمار الفكري الذي لازال يهيمن على عقلية النخبة العربية (إلا ما رحم الله)؛ وصولًا إلى الانعتاق الحضاري المأمول، ولكنهما دارا في حلقة مفرغة وعمّقا الخلاف بينهما من خلال الرد ونقيضه، دون الوصول إلى إبداع، أو تجديد، أو إجابة على الأسئلة الملحة والحائرة، ودون الوصول إلى نقطة الالتقاء على ضوء ما سطَّره علماء أصول الفقه والقواعد الفقهية في بحوثهم المستفيضة، ورغم أن علم أصول الفقه قد أصّل ذلك في باب الاجتهاد بما لا مزيد عليه، بيد أن الفوضى العلمية والدعوية والفكرية والثقافية العارمة التي ألقت بظلالها، ودفعت بالهواة وأصحاب الشخصيات النرجسية الذين تذبذبوا قبل أن يتحصرموا إلى واجهة الفتوى؛ وخاصة (الإعلامية) مما سبب بلبلة فكرية بين العوام، وأبرزت الرويبضات من قماقمها، مما يستلزم تجلية حكيمة وهادئة وبعيدًا عن التسميات والتجاذب الشخصي والحزبي، والصراع العقيم، من خلال وضع الإصبع على الجرح المتفاقم، والذي قعد بالمسلمين حتى الآن عن العبور إلى معمعة العصر الحاضر وعلاجه، والرقي إلى الإبداع الحضاري المأمول، وذلك بالتنافس العملي للمذاهب والنظريات التي تحكم العالم اليومَ، وتقديم البدائل العلمية والعملية الشاملة، فقد زوي الفقه الإسلامي بثرائه وموسوعته وعبقريته عمدًا أو تكاسلًا أو تجاهلًا في حقبة زمنية محددة، وهي (فترة ما قبل الاستعمار) وكأن المسلمين اليومَ خارج العصر متناسين أن الفقه الإسلامي لم يقف حائرًا بائرًا في التاريخه الطويل عبر ١٢ قرنًا تقريبًا، قاد فيه المسلمون العالم كله بالفقه الشرعي الشامل المكين، من منطلق مقام الأستاذية، والريادة، والقيادة بكل مراميها ومعانيها، وقدموا حلول الإسلام العملية بكل علمية، وإتقان وشمولية مشفوعًا بالأخلاق العالية، ونظرًا للكسل العلمي أو غلبة النمطية المذهبية، أو الصراع على الهوية بينَ مختلف النخب الفكرية، مما أثًّر سلبًا على عدم ظهور نهضة حقيقية ذات هوية حضارية مستقلة للمسلمين، تتفوق على النظريتين (الرأسمالية والاشتراكية)، بقدر ما بقي المسلمون أسرى الجمود الفكري التي يمثلها التعصب المذهبي، والفوضى العلمية العارمة، والتزكية الحزبية والجهوية، وتمثلها اليوم (المذهبية الجامدة، واللامذهبية الفوضوية) واللتان فشلتا كلاهما حتى الآن في الوقوف أمام عادية الهجوم على الهوية، وتغريب المجتمعات العربية والإسلامية، وبعث النهضة الحقيقية للعالم العربي والاسلامي، وحشرت نفسيهما في الجدال العقيم، وزوايا ضيقة لا تليق بالفقه الإسلامي الذي حكم العالم قرابة ١٢ قرنًا تقريبا.. إلخ، وتكررت العبارة التقليدية، (ليس بالإمكان أكثر مما كان) وقولهم (ما ترك الأول للآخر شيئًا) رغم أن هذه المرحلة طويت إلى غير رجعة، وزادت سوءات اللامذهبية بإدخال غير المؤهلين لساحة الفتوى، وتمزيق الوحدة المنهجية، وظهور الشذوذ الفقهي العارم، وظهور جماعات الإرهاب المخترقة من أجهزة الاستخبارات المعادية للإسلام والمسلمين، وتمزيق المدرسة السلفية شر ممزق..إلخ؛ فعلينا تجاوز هذه المرحلة التي ولدت الجمود الفقهي، وكأننا نعيش مرحلة ما قبل الاستعمار، فاكتفينا برفع الشعارات والفتاوى الجزئية، ولم نرتقِ لمنافسة النظريات المادية التي تحكم العالم اليوم، وهذا في حد ذاته عقوق لهذا الدين العظيم، فلسنا بحاجة لمذهب جديد، بقدر حاجتنا لصياغة نظريات جديدة للمذاهب الفقهية في منظمومة علمية مفصلة ومؤصلة لإدارة دولاب الحياة في كل مناحيها، وليس لتوسيع شقة الخلاف وصناعته وتجديده، وثمة شروط أساسية لا غنى عنها للصياغة الجديدة للفقه الإسلامي، وتحويله إلى نظريات شاملة ومشاريع حضارية كالتالي:
١- الخروج الشعوري والمنهجي، والدعوي، والفكري بالفقه الشرعي من مرحلة ما قبل الاستعمار التي لازالت تصبغ التعليم التعليم والفتوى، وتهيمن على الوعي واللاوعي إلى الألفية الثالثة أو القرن الرابع عشر الهجري أو مرحلة ما بعد الاستعمار ..
٢- إدراك ضرورة إقامة الحجة على العالم، والتي تستلزم الندية لا بل والتفوق لهذا الفقه الشرعي العظيم في الأسس والوسائل والأساليب تجاه النظريتين اللتين تحكمان العالم (الرأسمالية والاشتراكية).
٣- ضرورة أن تكون اللغة العربية لغة التعليم في جميع المراحل التعليمية مقـترنة بحركة ترجمة ضخمة؛ حيث بنى المسلمون حضارتهم على اللغة العربية ووحدت المسلمين وأنتجت حضارة أصيلة وبارعة ومستقلة ومتطورة، وفي العصر الحاضر لا نجد دولة متقدمة في العالم تدرس وتبحث وتفكر وتخترع بغير لغتها الأصلية والشاذ لا حكم له.
٤- إيقاف الحرب الحمقاء والمسعورة على الهوية، والتي قعدت بالأمة العربية والإسلامية عن النهضة والتورط في صراع عقيم ومتأزم تجاوزته الأمم الراقية، واتفقوا على المضي قدمًا نحو البناء و النهضة التي تسابق الزمن، فلازال العرب والمسلمون حتى الآن مختلفين ومتحاربين حول الهوية الثقافية.
وهذا المشروع الضخم لن يتم من خلال تأسيس مذهب جديد يقوم به فرد أو أفراد، بل تستوجب خطة كبرى شاملة ومتجانسة ومتناسقة، وميزانيات ضخمة وكوادر علمية من مختلف التخصصات، ومراجعات خاضعة للنقد العلمي المحايد قبل عن إعلانها وولادتها وظهورها.
– أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بالجامعة الإسلامية وجامعة طيبة سابقًا