كما يعلم الجميع بأن مكة المكرمة مهوى أفئدة الناس، وقبلة المسلمين يأتوها من كل فجِ عميق، لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وفي أيام الحج يذهب جميع أصدقائي في الحي الذي نسكنه بالقرب من المسجد الحرام “ليشهدوا منافع لهم”، والعبد الضعيف كاتب هذا المقال يجلس وحيدًا في الحي حتى يُصاب بالملل، حاولت الذهاب مع أصدقائي، ولكن الوالدين كانوا يرفضون بحجة الخوف عليّ؛ حيث كنت أدرس في بداية المرحلة المتوسطة آنذاك.
أستعنت بجاري أبو معتز للتوسط عند الوالد؛ ليسمح لي بالذهاب مع شقيقه (غازي) صديق الطفولة “والأخ الذي لم تلده أمي”، حيث كنّا نلعب معًا ونذاكر الدروس مع بعض، ولا نفترق إلا عند النوم، وكنت أرغب أن أكون بصحبته في الحج. لم يقصر الوجيه أبو معتز، كلم الوالد -يرحمه الله- وكعادته يقدّر الرجال ويحترم الجار ويقبل الشفاعة ما لم يكن فيها ضرر، فاستحى من أبو معتز وحاول الاعتذار منه بلطف، وقال: ما عندي مانع ولكن أم عبدالله تخاف عليه يضيع مع زحمة الحجاج، وأنا مرابط في الحج، قال: أبو معتز لا تخافوا عليه، أخواني أحمد وغازي معاه، وبعدين كل الشباب يا عم أحمد يعملوا خله يروح معاهم ووكل الله.
كان أبناء الحي يعملون في مواضع متفرقة عند المسجد الحرام، منهم من يسقي ماء زمزم على الحجاج، ومنهم من يخدم الحجاج في المسعى بالعربات، ومنهم من يجلس بجوار مكتب البريد في نزلة حي الشامية، ويكتب رسائل للحجاج أثناء وصولهم مكة المكرمة ليطمئنوا أهلهم بسلامة الوصول، جلست مع كتّاب البريد، بعد أن أشتريت الورق والظروف والقلم الأزرق، وجلست عند مكتب البريد، وكان يستهويني قراءة العبارات واللوحات الإعلانية، ومنها الإنجليزية (post office) المكتوبة على مكتب البريد، وكان يأتيني الحجاج من الدول العربية لكتابة الرسائل، ونقل مشاعرهم وسلامهم لأهلهم، وكانت مشاعر جميلة عشتها بكل تفاصيلها وأنا في سن مبكرة، كنت أسوّق لثقافتي عندما يمر من أمامي حجاج شرق آسيا وأقول بلغتهم (أبا خبر بقوس) ويردوا عليّ (خبر باي)، وهم سعداء بأنني أحدثهم وكان حجاج الدول العربية مندهشين من ثقافة الشاب المكي الذي يتحدث عدة لغات وهي لا تتجاوز بِضع كلمات، لم يكن في بالي وقتها أن أكون كاتبًا صحفيًا فضلًا عن أن أكون رئيس تحرير لصحيفة تحمل اسم مكة المكرمة أطهر البقاع، وأحبها إلى رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
أستحضر هذا الموقف بعد اتصال هاتفي وردني من أخي وزميلي الأستاذ أسامة عبدالله الزيتوني، المتحدث الرسمي لأمانة العاصمة المقدسة، عندما طلب مني كتابة مقدمة كتابه الجديد، وأخبرني أنه جاهز للطباعة ومتوقف على المقدمة. سعدت بهذه الخطوة منه كمؤلف سعودي يثري المكتبة العربية لا سيما في تخصص الصحافة، لكن لم أوافق على طلبه، عكس ما فعل محمد حسنين هيكل مع طلب صديقه (جميل عارف) بشأن كتابة مقدمة كتاب (أنا وبارونات الصحافة)، حيث وافق على الفور حينها وبدون تردد، لكن شكرته على حُسن ظنه بي وكنت صادقًا معه، وأخبرته بأنني سوف أرشح له من هو أفضل مني كتابة وأكثر خبرة، وأنني سوف أتولى مسألة إقناعه بذلك، وطلبت أن يعذرني فلم أصل بعد لمستوى أن أكتب مقدمة كتاب بهذا المستوى الذي يأمل أن يكون إضافه لطلاب أقسام الإعلام والمهتمين، لم يقبل عُذري ولم يعفيني من هذه المسؤولية؛ فأصر أبو أحمد على أن أكتب مقدمة كتاب (الخبر كائن حي) وهو من إصدارات دار الريادة للنشر والتوزيع.
صدر الكتاب بحمد الله وتوفيقه قبل عام تقريبًا ولم يشغل بالي عدم وصول نسخة الإهداء، بقدر ما أشغلني معرفة سبب إصرار أسامة على أن أكتب المقدمة وأنا لست من بارونات الصحافة!، وهو نفس الموقف الذي عاشه محمد حسنين هيكل عندما سأل نفسه، حين طلبه صديقه جميل كتابة المقدمة،وقال: “متى يصح لأي كاتب أن يقدم عملًا لزميل له أو لصديق؟”، وبدأ يساورني الشك بأن أسامة الزيتوني كان يعمل في البريد ومطلعًا على الرسائل التي كنت أكتبها للحجاج.
جميل هذا السرد من الجميل الاستاذ عبدالله الزهراني
الذي اخذنا عبر الماضي لنتعرف على بعض طقوس ابناء مكة الافاضل في موسم الحج فهذا بحد ذاته يجعلني اقف احتراما واجلال لذلك الجيل الجميل .
واما طلب الاستاذ اسامة عبدالله الزيتوني لكتابة مقدمة كتابه ” الخير كائن حي ” من سعادتكم فهذا يعطينا بعد اخر عن وعميق لمعنى الصداقة
ناهيك عن انه اختار القلم المناسب ليضع ديباجة ثمينة لهذا الكتاب ولن اقول اكثر من كفو استاذ عبدالله وكفو الاستاذ اسامة الزيتوني ..( خبر باي )
تقبل خالص تحياتي
اخوك جمعان البشيري
ودمت بود