اتفق أغلب المؤرخين على أن هذه البلدة المُباركة سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية؛ وذلك أن الله -عز وجل- يقول حاكيًا عن خليله -عليه السلام-: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37)
وقال -عز وجل-: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص: 57)
فبرهان ذلك فيها ظاهر متصل إلى يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوى إليها من الأصقاع النائية والأقطار البعيدة؛ فالطريق إليها ملتقى الصادر والوارد… والثمرات تُجبى إليها من كل مكان، فهي أكثر البلاد نعمًا وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر.
تُعتبر مكة المكرمة بحق مركز رواج اقتصادي أيام موسم الحج؛ حيث تُمثل قمة النشاط التجاري المزدهر فتشهد فيها ذروة الرواج والحركة التجارية، وتكثر المتاجر المختلفة وتعقد بها الصفقات التجارية الكبيرة؛ فالأعداد الكبيرة من الحجاج لا بد أن يُصاحبها نشاط كبير في حركة البيع والشراء؛ فكان لذلك أعظم الأثر في أن تتبوأ المكانة العالية في الميدان الاقتصادي.
ويذكر لنا مؤرخ مكة جار الله بن فهد أنه في موسم عام 942هـ/1535م بلغ عدد الحجاج القادمين من الشرق فقط عشرين ألف نسمة، ومعهم الكثير من البضائع الرائجة في بلادهم؛ خاصة الأقمشة المزركشة للمتاجرة بها، وكانت الأسواق التي تُقام في منى وعرفة من أشهر أسواق هذا الموسم؛ حيث يصل إليها أعداد كبيرة من تجار الشرق والغرب، وحددوا وقت ورودهم بنظام المدة لأن نظام الأسواق السنوية في الأعياد كان يختلف تبعًا لمدار السنة.
كما أن هناك سوق موسمية أخرى تنعقد عند وصول أهل السراة من زهران وغامد وبني مالك الذين كانوا يجمعون بين أداء العمرة وميرة البلد، ولهؤلاء أثر كبير فـي الحياة الاقتصادية بمكة فوصولهم يعني الرخاء ورخص الأسعار حتى لقد كان يفيض الكثير من المؤن التي يجلبونها؛ فيخزن أهل مكة والمجاورون هذا الفائض، ويدخرونه حتى وقت وصول الميرة التالي.
ويذكر مؤرخو مكة أنه لولا وصول هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش، كما أن تأخرهم عن الوصول أو عدم مجيئهم يعني ارتفاع الأسعار وشدة الغلاء.
ويرصد لنا ابن فهد في عام 924هـ/1518م “في يوم الخميس خامس الشهر وصلت قافلة من السراة؛ فتباشر الناس به بعد إياسهم، فكان وصوله على التجار من الفرج بعد الشدة”.
0