أدى نشاط الحركة التجارية بين الشرق والغرب وازدهار تجارة التوابل في العصور الوسطى إلى ظهور الأسواق الموسمية التي كانت تُعقد في مواسم ورود التوابل من الهند والصين إلى أسواق مكة وجدة، وهي خاضعة لمواعيد هبوب الرياح الموسمية ويؤقت وصولها في مواعيد سنوية ثابتة لا تتغير.
والحق أن الخريطة التجارية لهذه الأسواق قد اتسعت في القرن العاشر الهجري، وهي تعكس نتائج التحول الكبير الذي طرأ على المركز التجاري لجدة، وازدهار حركة التجارة بصورة رائعة، وتعرف هذه الأسواق بمكة والحجاز باسم “الموسم الهندي” لكثرة وصول السفن والمراكب الهندية من الديو وكنابية.
وكان لوصول السفن الهندية في هذا الوقت أهمية قصوى.. كما كانت هناك سوق موسمية أخرى تنعقد عند وصول أهل السراة من بلاد غامد وزهران الذين كانوا يجمعون بين أداء العمرة وتسويق منتجات بلادهم التي يعتمد عليها أهل مكة في مبرتهم، ولهؤلاء أثر كبير في الحياة الاقتصادية في مكة فوصولهم يعني الرخاء ورخص الأسعار.
وهناك نوع من الأسواق، تسمى السنوية، وكانت تعقد في مكة المكرمة في مواسم الحج؛ إذ يفد إليها أعداد هائلة من الحجاج والتجار المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، وسرعان ما تصبح مكة مركزًا حافلًا بمظاهر التبادل التجاري؛ فبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبًا من النفع المادي، فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى مكة المكرمة ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهلهم من الطرائف المكية، ومما يحمله إليها الناس من سائر البقاع.
ولعبت أسواق مكة أيام الموسم دورًا كبيرًا في النشاط التجاري والتحكم في الأسعار؛ نتيجة لكثرة المتاجر والسلع التي يحملها الحجاج والتجار، وما تؤدي إليه هذه الكثرة من انخفاض في أسعار السلع في جميع الأوقات.
ومن أسواق مكة العامرة وقت الحج، سوق منى؛ حيث يقيم الحجاج أثناء أيام التشريق الثلاثة، من الحادي عشر إلى الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
وهي تعمر في المواسم وتخلو بقية السنة، وبها آبار وبرك للمياه، وكان بمنى حوانيت حسنة البناء قد بُنيت بالحجر وخشب الساج، وتعتبر منى في تلك الأيام الثلاثة سوقًا من أعظم الأسواق يُباع فيها من الجوهر النفيس إلى أدنى الخرز إلى غير ذلك من الأمتعة وسائر سلع الدنيا لأنها مجتمع أهل الآفاق.
ومما يدل على عظم ذلك الرواج الاقتصادي في أسواق المواسم أن البيع والشراء قد عمَّ في منى حتى وصل الأمر أحيانًا إلى تواجد الباعة بمسجد منى، وقد لقي ذلك معارضة وامتعاضًا من بعض علماء المسلمين، ويحق لنا القول إن أسواق مكة بمنى وعرفة اشتهرت خاصة في موسم الحج، وقد سجلت أسواق منى والمشاعر نشاطًا تجاريًا عاليًا فالتجمع الإسلامي الكبير كان يُصاحبه على الدوام حركة دائبة ونشطة في البيع والشراء لدرجة أن الحجاج كانوا يظلون في منى بعد النزول يومًا آخر لرغبة التجار في ذلك.
وكانت تعتمد أسواق منى والمشاعر على السلع التي يحملها الحجاج معهم إلى مكة من اليمن وبلاد الشام والعراق وخراسان وغيرها من البلاد الإسلامية؛ فضلًا عن المتاجر التي كانت تجلب إلى مينائها جدة، من الهند والشرق الأقصى عن طريق ميناء عدن في جنوب شبه الجزيرة العربية.
ولا يقتصر النشاط التجاري في موسم الحج على أسواق منى وعرفة فقط فجميع أسواق مكة تكون في حركة وتبادل تجاري مزدهر ومستمر؛ فقد كان الحجاج يرتادون هذه الأسواق في النهار؛ إذ يظل المد التجاري قويًا فيها، ولعل من أبرز الدلائل على ازدهار التجارة في هذا الموسم أن الأسواق كانت تُقام في المسجد الحرام وكثيرًا ما يحدث بها التعطيل للساعين بين الصفا والمروة؛ نتيجة ازدحام الناس على الباعة.
ونلاحظ أن المكيين كانوا يتحكمون في الموسم سواء في نقدهم أو في سائر معاملاتهم؛ لأن الموسم هو فرصتهم الوحيدة لجني أرباح طائلة، ولكن يظهر أن البعض منهم قد غالى في استغلال مواسم الحج والعمرة لتلك الغاية.