فقدنا يوم أمس الجمعة الخامس من شهر ذي الحجة ١٤٤٤هـ رجلًا كبيرًا وإنسانًا نبيلًا معالي الأخ الزميل الدكتور ناصر السلوم وزير المواصلات الأسبق.
*تباعدت بنا الأزمان، ومع ذلك تعمقت بيننا أواصر المحبة والتقدير.
*عرفت ناصر السلوم حينما جمعنا القسم الداخلي في “جبل هندي” في مكة المكرمة كطلبة مغتربين لاستكمال دراستنا الثانوية. كنت أنا قادمًا من جازان وهو من المدينة المنورة. كنا مجموعة من الطلبة من جميع أنحاء المملكة ممن لم تتوفر في مناطقهم آنذاك مدارس ثانوية.
نقل القسم الداخلي إلى أماكن أخرى في “المعلاة” ثم “المعابدة”؛ كي يتسع لعدد أكبر من المغتربين.
*كان الدكتور ناصر في تلك الفترة في السنة الأخيرة من دراسة الثانوية، وكنت أنا في السنة الرابعة الثانوية.
*كانت تجمعنا وجبات الطعام، وبعض الأنشطة الثقافية والاجتماعية في القسم الداخلي. وكثيرًا ما كنت أشاهده مكبًا على دراسته في غرفته أو في ناحية باب السلام في الحرم.
*كانت معرفتنا سطحية آنذاك، وكلانا ملتف حول نفسه.
*ثم اجتمعنا في “دورة ثانية” في بداية الستينيات الميلادية من القرن الماضي في مصر حيث كان يدرس في كلية الهندسة وأنا في كلية التجارة بجامعة القاهرة، وفي هذه الفترة كانت علاقتنا متباعدة أيضًا بحكم التخصص والبُعد في السكن.
* ويشاء الله أن تجمعنا “دورة ثالثة” في “جامعة آريزونا” في أمريكا أثناء دراستنا العُليا، هو مبتعث من وزارة المواصلات، وأنا من جامعة الملك عبد العزيز “الأهلية”.
خلال هذه الفترة تعمقت علاقاتنا الشخصية والأسرية التي امتدت قرابة أربع سنوات ومعنا زملاء سعوديون آخرون مبتعثون من جامعات أخرى أبرزهم الدكتور/ غازي مدني، والدكتور/ حسن أبو ركبة، والدكتور/ عبد البر القين، والدكتور/ عبد الرحمن عقيل، والدكتور يحيي مكي ، والدكتور/ محمد عمر الزيان -يرحمهم الله-.
والدكتور/ حسين منصور، والدكتور/ منصور أبا حسين، والدكتور/ عبد العزيز الدخيل والدكتور/ أحمد جادو، والدكتور/ عابد قامة -حفظهم الله-، وآخرون في مرحلة “البكالوريوس.”
*كانت “الدورة الرابعة” للالتقاء مرة أخرى حينما عينت وكيلًا مساعدًا في وزارة المواصلات في شهر ربيع أول من عام ١٣٩٩هـ. كان هو وكيلًا للوزارة والمساعد الأكبر للوزير آنذاك الأستاذ/ حسين منصوري.
كانت هناك اتصالات مسبقة بيني وبين الدكتور/ ناصر لمحاولة إقناعي بالقبول بالمنصب الذي كنت مترددًا في قبوله بسبب تمسكي بالبقاء بمهنة التدريس الجامعي التي انغمست فيها في جامعة الملك عبد العزيز بعد عودتي من أمريكا.
*كان -يرحمه الله- في تلك الفترة يعمل مهندسًا، وإداريًا، ووكيلًا للوزارة، ومسؤولًا متجولًا في المناطق ، وقاعدة بيانات، وقائد اجتماعات، ومفاوضًا لتعاقدات إنشاء الطرق، وهو الاسم الأبرز بين جميع وكلاء الوزارات في المملكة في تلك الفترة.
*لم تطل مدة عملي في الوزارة سوى أربعة أشهر عُدت بعدها للجامعة للتدريس.
*لكن علاقتنا كانت قد نمت وتداخلت؛ بحيث إن الاتصالات والالتقاء مع الدكتور ناصر أخذت الطابع الأسري وتجاوزت الطابع الرسمي.
ثم كانت “الدورة الخامسة” والقفزة الأخرى في علاقات الصداقة والزمالة والأخوة حينما اجتمعنا مرة أخرى في التشكيل الوزاري الذي أجراه الملك فهد -يرحمه الله- في ١٦ من ربيع الأول عام١٤١٦هـ. هو وزيرًا للمواصلات وأنا وزيرًا للدولة، وعضوًا بمجلس الوزراء.
*في مجلس الوزراء نختلف في الرؤيا في بعض القضايا والتي قد تخص وزارته، ولكن عمود الود والثقة يتصاعد إلى أعلى وأعلى.
*كان منزله في الرياض -يرحمه الله- ملتقى الوزراء في شهر رمضان.
*لكننا وعدد محظوظ من الزملاء حظينا برعاية أخرى من الدكتور ناصر، كان هناك عشاء أسبوعي تقريبًا في فيلته الصغيرة الأنيقة في الرياض تجمعنا. ثلاثة وهو مضيفنا ورابعنا. الدكتور أسامة شبكشي وزير الصحة -يرحمه الله-، والدكتور فؤاد فارسي وزير الإعلام أطال الله في عمره ومدني علاقي.
ثم بدأت “دورة سادسة”، حينما خرجنا من الوزارة، وتجددت لقاءاتنا في جدة، وفي طابع دوري أسبوعي انتهى بوفاة أحد أركانه الدكتور غازي مدني -يرحمه الله-.
*ثم كانت الدورة الأخيرة، وكان اللقاء الأخير له مع أحباب له.
*تماسك مع ألمه وضعفه وقلت حيلته بعد أن هزه المرض وأضناه الشوق إلى لقاء أصحابه فقام بزيارة “لخميسية” الأستاذ محمد عمر العامودي بجدة منذ أربعة أشهر تقريبًا. كان واضحًا عليه المرض، ومع ذلك كانت روحه عالية وذاكرته مشتعلة خاصة بعد أن كان الجميع ملتفين حوله وينصتون إلى كلماته وبعض ذكرياته.
*وفجأة ينزل علينا خبر الوفاة.
الله …الله يا ناصر السلوم… عشت حياتك في كنف المحبين لك من كل الأطياف، وودعتهم بأطيب الكلمات، ومت عزيزًا، شهمًا، نبيلًا عفيفًا، يستضيفك رب كريم في يوم جمعة، وفي العشر المباركات من شهر ذي الحجة، وترعاك عناية رب رحمن رحيم.