سؤال مجرد
التطرّف، نزعة بشرية للعنف والإرهاب والكراهية والإقصاء، لا علاقة لها بالدين أو المذهب أو الأيديولوجيا أو التوجهات الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية، لكن هذه النزعة البشرية غير السوية تحتاج إلى غطاء عام تشرعن من خلاله هذا السلوك البشري الشائن؛ فتختار هذه النزعة مما سبق ذكره الغطاء الأنسب حسب توجهات الشخص أو المجموعة التي تُمارس فعل التطرّف، الذي هو وسيلة لتحقيق غاية أو أجندة عامة أو حتى متطلب شخصي يسعى للحصول على امتياز محدد لا يمكن الحصول عليه بالوسائل العادية أو المتاحة في السياقات الطبيعية الممكنة في إطار سلمي نمطي أو اعتيادي عقلاني أو حتى تنافسي طبيعي.
ولكن التطرف الديني أو الذي ارتدى عباءة الدين، كان هو الأكثر بروزًا على المستوى العالمي؛ لأن الدين من وجهة نظر المتطرفين هو الواجهة الأمثل والأكثر تأثيرًا وقبولًا، والذي يمكن من خلاله إيجاد حاضنة شعبية مناسبة وكبيرة وعابرة للحدود، فكان التطرف اليميني هو الأبرز والأكثر انتشارًا، ولكن ذلك لم يمنع ظهور التطرف اليساري المضاد، بل كان القاعدة الأساسية لظهوره، والمحفز الأساسي لنموه وانتشاره عالميًا مستخدمًا نفس السبل والوسائل لتحقيق غايات مضادة، بأدوات مختلفة عن الأدوات التي استخدمها اليمينيون أو المتطرفون الدينيون، ولكنها أوصلتهم لنفس الغايات التي لم تختلف عن الكراهية والإقصاء وكره الآخر، وعدم الرغبة أو منح الفرصة للتعايش معه.
ويعرّف التطرف، وفقًا لمعجم مصطلحات الإرهاب الصادر عن التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، بأنه: “تجاوز حد الاعتدال وترك التوسّط، وهو في الجملة غلوٌّ اعتقادي ينطوي على عُدوان على الخلق؛ فكرًا أو تنفيذًا”.
والتطرف بشكل عام، لا علاقة له بالإسلام، وليس حتى حكرًا على الإسلاميين، فهو في أساس نشأته الأولى يعود إلى حادثة هابيل وقابيل، التي شكلت بداية العنف البشري، ولا علاقة له بالأديان السماوية أو الوضعية البشرية، إلا أنها جميعها استخدمت كغطاء أو عباءة من منتمين لها، ففي اليهودية مثلًا، كانت طائفة (الزيلوت) المتشددة التي تأسست على يد يهوذا الجليلي عام 66 قبل الميلاد، وسمي أعضاؤها (سيكاري) نسبة إلى سلاح السيف القصير (سيكا) الذي كانوا ينفذون به عمليات القتل والاغتيال، بينما في المسيحية، استخدم الرومان أساليب العنف والترهيب لفرض عقائدهم المسيحية، وظهرت محاكم التفتيش، والحروب الصليبية والدينية التي ذهب ضحيتها ملايين البشر على مستوى العالم، ومنها طائفة (الكاثار) المسيحية التي قتلت أكثر من عشرين ألفًا من أتباعها على يد الحملة الصليبية الألبيجينية، وجماعةُ (فرسان الهيكل) أشهر الجماعات المسيحية المتطرفة في القرون الوسطى، وغيرها كثير، وفي الدين الإسلامي كان بداية نشوء التطرف على يد جماعة (الخوارج)، ثم (القرامطة)، و(الحشاشون)، وصولًا إلى العصر الحديث وظهور جماعات إرهابية متطرفة، مثل (السرورية)، و(القاعدة)، و(داعش)، و(جبهة النصرة)، و(أنصار بيت المقدس)، و(الجماعات المسلَّحة الشيعية) و(حزب الله الإرهابي) و(جماعة الحوثي)، وغيرها من الجماعات الإرهابية المتطرفة من السنة والشيعة وغيرهم، الذين اتخذوا الدين والمذهب غطاء لهم.
وكذلك كانت الديانات الوضعية أيضًا تُمارس نفس الفعل المتطرف العدائي، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما فعله ويفعله البوذيون ضد مسلمي الروهينجا من إبادات جماعية على مسمع ونظر العالم، وما يفعله الهندوس بالمسلمين. وبعيدًا عن الدين والمذاهب الدينية الفرعية، ظهرت نزعات أخرى تحت مسميات (القومية)، و(الشعبوية)، و(الناصرية)، و(العلمانية)، وغيرها من الجماعات اليسارية، ليس على المستوى العربي فقط، ولكن على المستوى العالمي، التي تبنت دعم الأقليات وتأجيجها، ودعم المثلية، وتبنت دعم الملفات الحقوقية لتحقيق أجنداتها، حتى تحوَّل اليسار المعتدل إلى يسار راديكالي عنيف وشرس، ويدعو بدوره إلى الإقصاء والكراهية وفرض أجنداته الخاصة، التي بدأت في عهد الرئيس الأمريكي الديموقراطي باراك أوباما بالتمدد الأوسع واستمرت حتى اليوم، وكان من نتاجاتها الربيع العربي والفوضى الخلاقة وحروب الجيل الرابع العالمية، والتي تماهت مع الجماعات اليمينية المتطرفة والإرهابية لتحقيق أجنداتها، مثل جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ونظام الملالي في طهران وأذرعه في المنطقة وغيرهم.
وبدأت تنتشر ظواهر حرق القرآن في العديد من الدول، مثل: كندا وأمريكا وهولندا والسويد، والإساءة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- في عديد من الدول مثل: فرنسا والدانمارك وبلجيكا، وحوادث تفجير الكنائس، والاعتداء على المصلين في المساجد، على يد أتباع هذه الجماعات أو حتى على يد أفراد يؤمنون بفكرها أو يتأثرون به.
ووقعت كثير من المجتمعات العربية بين كماشتي تطرف، الأولى: كماشة تيارات الصحوة والإسلام السياسي التي حاولت اختطافه نحو أقصى اليمين وحوَّلته إلى تابع يعيش بفكرها وسلبته حرية التفكير والاختيار ومارست عليه ميكافيلية أوصلته لهذه التبعية التي سلبته حق اختيار سلوكه وملابسه وعلاقاته الإنسانية، وحولته إلى مجتمع راديكالي يرفض الآخر وحتى يكفره.
والثانية: كماشة اليساريين الذين حاولوا ويحاولون بدورهم اختطاف المجتمع نحو أقصى اليسار؛ ليعيش بفكر يساري يحاول سلبه حرية التفكير والاختيار أيضًا بنفس الميكافيلية التي تسعى لتحويله إلى تابع لا يملك حق اختيار سلوكه ولا ملابسه ولا علاقاته الإنسانية، وضخّم سقف المطالبات بحقوق الأقليات والمثليين والنسوية ونزع الحجاب وغيرها، مما انحرف بالاعتدال اليساري إلى راديكالية أخرى على الطرف النقيض جعلته يرفض الآخر ويناهضه وحتى يجرّمه.
وكلتا الكماشتين، هما نقيض الاعتدال والوسطية، وضد منح الناس حق الاختيار فيما يعتنقون وما يلبسون.
الاعتدال الحقيقي: هو التعايش الديني والمذهبي والحوار الهادئ (الذي تتبناه الدولة، وأنشأت من أجله مركز الحوار بين أتباع الأديان والمذاهب ومركز الحوار الوطني والمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف)، بدون تكفير ولا تخوين ولا ارتهان لنظريات المؤامرة من كلا الطرفين، وبدون اختطاف لتفكير المجتمع، اتركوا الناس يختارون ويعيشون حياتهم لا حياتكم.
باختصار: تخلي أصحاب الفكر اليميني وأصحاب الفكر اليساري عن شوفينية كل طرف والالتقاء في منطقة وسط (منح الناس حق اختيار نمط الحياة بدون توجيه مبالغ فيه)، هو الحل.. ولا بد من تضافر جهود المنابر الدينية مع المؤسسات التعليمية والتربية الأسرية مع مخرجات مراكز الحوار المعتدل البناء، ومراقبة الآباء والأمهات لتواصل أبنائهم في وسائل التواصل الاجتماعي و(الشات المباشر) في الألعاب الإلكترونية؛ حتى لا يكونوا عُرضة لاختطاف وتجنيد المتطرفين لهم.
الحل صعب لأنه يسلب النفوذ والسلطة السيكوباتية ويجفف منابع الأموال لهؤلاء المتطرفين.. ولكن هل هو ممكن؟
ربما هو ممكن، لو نحت دول العالم منحى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، في مكافحة التطرف والجماعات الإرهابية، والتحجيم الفوري الوجودي الصارم لهم.