المقالات

الحج، والنجاح المبهر

إن من يُتابع مراحل الحج ليدرك مليًا أن تلك النجاحات التي تحققت لم تأتِ من فراغ بل بُنيت على خطط محكمة ومدروسة بعناية فائقة، كما أن اشتراك جميع أجهزة الدولة كمنظومة واحدة في اتساق تام وبشكل تكاملي دون تكرار للمهام أو تداخل للمسؤوليات لم يكن بالأمر الهين، لولا الترتيبات المسبقة والاجتماعات واللقاءات المكثفة التي بدأت منذ وقت مبكر كاستعدادات لهذا الموسم الذي يعد تظاهرة دينية عالمية توجه لها كمرات التلفزة كما تسترعي اهتمام عمالقة الإعلام الرقمي والتقليدي لتخلق حدثًا متفردًا ينبهر من تفاصيله – القادة والمفكرون والعلماء في مختلف العلوم والفنون العسكرية والمدنية والأكاديمية، ناهيك عن العامة – لحسن التخطيط وروعة التنظيم ودقة التنفيذ، والتي أسهمت في انسيابية الحركة بخط سير واحد منتظم في ذات الوقت وفي بقعة ضيقة محدودة لا يحق تجاوز معالمها الشرعية، في حين يظهر الحجاج بلباس أبيض موحد ومتفرد على هيئة واحدة هما (إزار ورداء) كتجرد من الدنيا وزينتها، تفرغًا من المشاغل الدنيوية وتعلقًا بالله ليس إلا؛ يحدوهم في ذلك إيمان خالص وعزم أكيد يتجاوز بهم هم الترحال، كما يهون عليهم وعثاء السفر، وبعد المسافات، وركوب المخاطر؛ بحرًا أو جوًا أو برًا، بالرغم من وهن كبار السن وضعفهم، أو ضيق ذات يد الفقراء والمعوزين، وليترك – من أجله – الأثرياء أموالهم وأهليهم وكل بهارج الدنيا وزخارفها خلفهم؛ تذوب هنا الطبقيات، الكل في مواطن العبادة سواسية، تتلاشى بينهم كل الفوارق والمميزات والأجناس والألوان والوجاهات والمناصب؛ لا فرق في عدل السماء بين هذا وذاك، فكلٌ لله عبد (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، فالموقف عبادة خالصة لا تعكرها شعارات مذهبية أو سياسية أو مطامع دنيوية (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام : 162]

ولأن الحج شعيرة عظيمة، (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] لذا تستنفر لها الطاقات البشرية والإمكانات المادية من لدن حكومتنا المباركة التي أخذت على عاتقها رعاية الحرمين الشريفين والقيام بشؤونهما، وما له صلة بهما؛ من عمارة واستقبال ورعاية لقاصديهما في مختلف المواسم والعبادات؛ كاستخلاف خص الله بها قادة المملكة العربية السعودية لتكون منارة للعالم، وراعية لهاتين البقعتين المقدستين الشريفتين، التي تضم الكعبة – القبلة – المعظمة والمسجد النبوي الشريف .. إنها بحق هِبة ربانية وتكليف إلــهي قبل أن يكون تشريف بكون ذلك مسؤولية جسيمة تستلزم طاقات بشرية وجهود فكرية تبني على دراسات علمية، ناهيك عن البذل المالي، إنه عمل شريف عظيم مبارك، لا تستكثر في الإنفاق عليه المليارات، لأنها ترى في ذلك واجبًا لا يتبعه منٌّ كما لا يطلب من ورائه شكر!!
إن الغاية العُظمى هي رضا الله سبحانه وتعالى ثم ليجد قاصد الحرمين الراحة والطمأنينة لأداء الصلاة والنسك في ظل أمنٍ ورعاية متكاملة، وهكذا النجاح على قدر البذل، والإنجاز يقاس بالإتقان، وهو مؤشر دأبت عليه المملكة في جميع أعمالها!!
هنا، وهنا فقط في المملكة العربية السعودية تظهر عبقرية القيادة في تهيئة وحشد وتنظيم وإدارة هذه التظاهرة المليونية في هذا الحيز الضيق بكل جدارة واقتدار!!
– وإذا ما كان التقييم يكشف جوانب التميز ليعززها، وجوانب الضعف ليعالجها، فإن لمركز أبحاث الحج وللجهات والوزارات ذات العلاقة جهود مشكورة لمراجعة الخطط لتطويرها وتحسينها، لتكون ذات جدوى عالية كي يتم تنفيذها على أرض الواقع، وذلك بالاستفادة من الخبرات السابقة كرصيد تراكمي تبنى عليه الخطط القادمة لتلافي ما قد يحصل من هفوات أو لتدارك ما يمكن تعديله أو تكييفه، تفاديًا لتكرار سيناريوهات رتيبة أو قد لا تواكب المتغيرات المتعلقة بالأحوال الجوية (الحر الشديد أو الاعتدال الشتوي)، أو تزايد الأعداد أو ما يطرأ من استحداث لمنشآت جديدة أو طرق أو وسائل نقل أو ما يطرأ من تطور تكنولوجي أو تقاني أو ثورة في الذكاء الاصطناعي وغيرها من المستجدات التي تزامن الحدث، وهذا ما شاهدناه في حج هذا العام من إنشاء (سدايا) لمركز عمليات مكة الذكية وذلك وصولًا لـ(الحج الذكي) لتعزيز الجانب الأمني إذ “قامت ببناء منظومة رقمية ذكية اشتملت على بنى تحتية ومنصات ذكية ولوحات بيانات متقدمة مثل منصتي: سواهر، وبصير؛ واللتين تهدفان إلى دعم الجهات الأمنية المختصة بتحليلات متقدمة حول موسم الحج، تسهم في تأمين وإدارة حشود الحجاج وتسهيل تنقلهم ما بين المشاعر المقدسة ومكة المكرمة بأمان وسلاسة”!
كل ذلك يعد سعيًا لتحقيق خدمات أفضل إلا أن المحك الحقيقي هو ذلك الرضا المرتسم على وجيه الحجاج بمختلف جنسياتهم ومشاربهم عندما يتحدث أحدهم معبرًا عن شكره وعمق مشاعره بالغبطة والامتنان، لما وجدوه من حفاوة وخدمات وتسهيلات لم يكن في خلد أحدهم أو لم يعهده من قبل، وكأنما وجد في الحج رحلة مترفة، ثرية بالرفاهية، ماتعة بخيرات متنوعة من سكنٍ مريح وطعام رغيد وماء بارد وشراب، ونقل مكيف حديث، وليجدوا كل العناية والرعاية الطبية مما قد ألم بهم من عارض صحي أو شكوى جراء مرض مزمن لم يجدوا له علاجًا في بلدانهم أو ما قد يحدث من أزمات قلبية أو مما يحتاج لتدخل طبي عاجل؛ ولو كانت عملية معقدة أو ذات خطورة فائقة أو تكاليف باهظة الثمن تستلزم فريقًا طبيًا متخصصًا أو غرفة عمليات متقدمة لتجرى له بالمجان؛ دون النظر لتكاليفها أو ما يترتب عليها من أدوية أو إمكانات!!
إن دواعي الرضا والغبطة تلك التي تحكي بها ملامح الحجاج ومشاعرهم لتفيض شكرًا وعرفانًا بما حظيوا به من رعاية فائقة واهتمام خاص، وكأنما يشعر كل حاج أنه هو المفضل على غيره، أو المختص بالعناية وحده .. إنها عناية المحتسب وإنصاف العادل الذي لا يريد إلا الخير للجميع، أن ينعم الحجاج بتلك المآثر ليتفرغوا للعبادة، والعبادة فحسب، في ظل أمن وارف وتنظيم محكم وخدمات إنسانية وصحية و رفاهية في التنقل والسكن!!
إن من يلحظ التطور الحاصل هذا العام ليجد أن الفارق كبير عن ذي قبل، في عدة مجالات منها:
– المتابعة الميدانية الحثيثة والمباشرة على مدار الساعة من قبل الوزراء والقيادات الأمنية العليا والأجهزة الخدمية المساندة، والتي تنم عن دافع كبير وشغف وحس مكين بالمسؤولية وعزم أكيد؛ لأن تنفذ الخطط المرسومة بكل دقة وإتقان ليظهر الحج بصورة مشرفة وفقًا لتوجيهات القيادة وحرصها على أن تبرز المكانة المرموقة للمملكة لدى المسلمين والعالم قاطبة!
– تكاتف الجهات وتناسق الجهود التي ظهرت من خلال إدارة الحشود بكل كفاءة بانسيابية وسلاسة تامة، وكذلك الأداء المتميز لأفراد القوات الأمنية والطواقم الطبية والإسعافية، وكذلك العناصر المدنية في مختلف المهام والمسؤوليات.
– برز العمل التطوعي كمساند ومرافق للجهات الحكومية؛ ليحكي حرص وكرم الشعب السعودي المضياف بتلقائية وعفوية لخدمة ضيوف الرحمن، ولينقلوا للعالم صورة مشرفة لإنسانية ابن هذا الوطن وتدافع مواطنيه للعمل الخيري بدافع فطري ديني متوارث احتسابًا للأجر وطاعة لولي الأمر، بكل حب ونقاء!

– برز الإعلام بكل قنواته التقليدية والحداثية لإبراز جهود الدولة في خدمة الحجاج وقاصدي بيت الله، وكناقل لكثير من المواقف الإنسانية لرجال الأمن، ولإنسان هذا البلد المعطاء؛ موظفًا حكوميًا أو متطوعًا، إلا أن معظم الرسائل توجه للمحيط الداخلي أو العربي، فيما نحتاج لإعلام عالمي يبرز الصورة المشرقة والجهود الجبارة للدولة والمواطن، كما يبرز الدروس التي تستقى من الحج كمؤتمر وحدث وعبادة وسلوك وتعايش ديني قيمي؛ وذلك بلغات متعددة ولقطات متنوعة كي يغير الصورة النمطية لدى الآخر!
– يفزع في كل عام كثير من رواد العمل الخيري لتغطية المشاعر بالبرادات التي تحوي الماء البارد والوجبات والعصيرات والحليب والآيس كريم وغيرها والتي تفيض عن حاجة الحجاج مما يدل على كرم الإنسان السعودي وحبه للخير، إلا أن هذا لم يبرز كواجهة مشرفة للوطن المستضيف لحجاج بيت الله الحرام، ولعل هذا العمل يعد رسالة للعالم بأن الإسلام يحث أصحاب المال والمقتدرين على البذل في سبيل الله؛ إيمانًا منهم بأن الله يخلفه (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] ، وليجدوا ما قدموا حاضرا في سجلاتهم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولتكون إحدى رسائل الإسلام للناس أجمعين بأن الإنفاق إحدى سمات المؤمن الحق لقوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]

أخيرًا:
الشكر الجزيل والامتنان العظيم والتهنئة الخالصة لقائدنا العظيم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولسمو ولي العهد الأمين رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان ولسمو وزير الداخلية رئيس لجنة الحج المركزية ولسمو أمير مكة المكرمة ونائبه، ولجميع الوزراء ومديري القطاعات العسكرية والصحية والمسؤولين والموظفين بمختلف الجهات الحكومية والأهلية وللمتطوعين من الجنسين على النجاح المميز لحج هذا العام 1444هـ، والذي يعد تتويجًا لجهود كبيرة وأعمال جليلة وتنفيذ ميداني محكم.. شكرًا بحجم هذا الإنجاز المبهر، الذي يجعلنا كمواطنين سعوديين نطاول النجوم فخرًا واعتزازًا بوطننا وقيادتنا!!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الكاتب الجميل الاستاذ فلاح اشكرك على جميل ماسطر قلمك من احرف من نور وهذا ليس عليك بغريب فالوطن يستحق ماذكرته جزاك الله خير وانت خير من يترجم مشاعرنا وفقك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى